ديوان «لَبْس» وجمال الشعر في محاولاته اليائسة

ديوان «لَبْس» وجمال الشعر في محاولاته اليائسة

شاعرات وشعراء

الخميس، ٥ يوليو ٢٠١٨

 أحمد محمد السّح
 
يبدأ خضر مجر في ديوانه «لَبْس» بقصيدة عنوانها «الزاني» وينتهي بقصيدة عنوانها «مفخخات» وهذا ما يوقع القارئ لهذه المجموعة في اللبس الذي أراده خضر مجر له، عبر مجموعةٍ شعريةٍ متنوعة صادرة عن «دار بعل» لعام 2016، حيث يقدم له الشاعر «جورج حاجوج» ويقول: «الشعر، شكلٌ من أشكال شق عصا الطاعة.. نوعٌ من الجنوح.. تحريك الراكد.. خلع نوافذ وأبواب موصدة لدخول الأوكسجين والهواء النظيف… هنا في «لبس»، وقبلها في مجموعته الشعرية الأولى «بدايات»، يرمي خضر مجر حصاته فوق سطح البحيرة، سعياً وراء تلك النشوة وذلك التشفّي!..» يمكن للقارئ أن يكتشف أنه أمام شاعر مثقف، متمكّن من رغبته في صقل تجربته بلغةٍ واثقة عبر جمل شعريةٍ طويلة، لا تعترف بالأحرف «المفروطة» لتملأ فراغ الصفحات من دون أن تملأ رغبة القارئ وانتشاء روح الشاعر، وهو الراغب حتى في «مسامرة الظلّ»:
(لم يبقَ سواكَ.. تؤرجحك أنفاس الليل الباردة
يلاعب الضوء ظلك المنهك فوق فراش الظلام
أعباء النهار بتأملاتك وأنهت مخاض الثبات
لا يسعك الرحيل عنها متشبثة بك كدالية
أجهضت عناقيدها
تفتت خيارات النوم على رحى الوسادة
وخابت ظنون الأحلام بك
لم يبق سواك)
يحب الشاعر خضر مجر أن يحكي في الشعر الحكاية، الحكاية الخيالية التي يقول فيها للقارئ: تعال لأسرد لك عبر قصيدةٍ من النثر ما هو يدخل في سرد النثر ويحلق بك في خيال الشعر، وهو الساعي ليبحث عن ذاته ويتعرف بها، ويعرّف القارئ إلى ما يقول، لأن توهة الشعر، هي الضياع الذي يهيم به الشعراء الحقيقيون ولا يريدون الخروج منه، ويصيبه الرعب الحقيقي من غياب القصيدة عن زياراته كما في «القصيدة تفكّ خطوبتها عني»:
(القصيدة رمت في وجهي حرفها ومضت من باب الحاضر إلى المستقبل..
مضت دوني ساحلةً دمعي على حجارة قرارها..
مضت دوني كاشفة عورة حزني للشمس..
وقد علم الجميع بأني..
«لقيط أبحث عن الضحكة التي أنجبتني»)
وهو في الجملة الأخيرة يستعير مطلع قصيدته الزاني التي يعرّف روحه فيها بلغةٍ أقل ما يقال عنها إنها لغة شفرات الحراب، في مواجهة زقزقة العصافير، في قصيدة يمكن القول إنها قصيدة طويلة تتسق مع أغلب قصائد المجموعة التي لديها سمة الطول في الجملة الشعرية، لكنه كشاعر يتقلّد قصيدة النثر يدخل بوابة الومضة الشعرية عبر قسم خاص في المجموعة سمّاه «نصوص قيد الكلام» يجمع فيها عدداً من الومضات الشعرية التي تظهر في رأس الشاعر وتحلق بروحه ولا تكتمل لتكوّن نصاً لكنها تنفصل لتبقى نصاً بمفردها، ومضة كابتسامة العاشق، ولمعة فلاش الكاميرا:
(المدينة التي راودتها الحرب عن نفسها
تغسل رأس الفجر
بالدعاء
أصافح ظلك
لأوقظ الليل من عتمته)
تتركز في المجموعة بعض المفردات المغرقة في فصاحتها أو من الممكن أن نقول إنها جرأة من شاعر قصيدة نثر أن يكتبها، مقارنة مع محاولة السهولة أو الاستسهال التي تظهر عبر مجموعات قصيدة النثر لمستسهلي الشعر، لكن قوة خضر مجر تبرز في اختياراته وفي العناوين ومنها «مثاب، ضغيب الكلام، سكتش مائي لمقرنصات أحبك..» وهي عناوين طريفة تثير الفضول للبحث في معناها اللغوي قبل البحث في معناها الشعري، وطريقة شرح خضر لرؤيته عبر صور يشتغل على بنائها وتركيبها بشكل مختلف وكأنه بنّاء مارس مهنة الموزاييك بالكلمات ففي «مثاب»:
(الياسمينة التي فصدت جبين الشمس فأثلمت صيفها..
تقرع نواقيس المدائن وتفر إلى حقيبتك
والأصداف التي ترمّلت عن رملها
تئن موجاً في جوف الفراغ فتعيد
السأم لوجه القمر)
تتماهى لدى خضر مجر صورة المكان مع مفردات الطبيعة هو الذي يفصّل في تضاريس دمشق، حاراتها وساحاتها التي عاش فيها وعشق في زواياها وقال شعره على أطرافها، لم تخرج منه مفردات ريف سلمية التي جاء منها حيث العنب، والجانرك، وندى الصباح ورطوبة الليل، هو المتأمل حتى الشبع في «رذاذ من شبع الأمل»:
(أحاول ألا أسمع صوتي حين ترتدين خلخالك وأزدرد الشهقة..
رائحة الكرواسان في «ساروجة» إزار تعلقين فيه
كل ما أشتهي من الرقص..)
في عناوين خضر مجر محاولة لقراءة الواقع بطريقة مختلفة، ومحاولة لعيش الأماكن واختلافاتها وسيطرةٌ محببة للطبيعة الأم، فخضر عاشقٌ دائم، يحبّ تعريف الأشياء وفق رؤيته الخاصة ويعيد تفكيكها إلى جذورها الأولى ليقولها بصورةٍ جديدة، تراوده الحكمة أحياناً، ولكنه يهجرها إلى التجريب والتوهان المقصود، ليبقى شاعراً واقعاً في (اللَّبْس).