رحلةُ الشعرِ مع المتلقي.. العلاقة التبادلية التي تجمع بين الشعر والجمهور منذ أقدم العصور

رحلةُ الشعرِ مع المتلقي.. العلاقة التبادلية التي تجمع بين الشعر والجمهور منذ أقدم العصور

شاعرات وشعراء

الأحد، ٧ أبريل ٢٠١٩

تبقى مسائل الشعر مثاراً للنقاش والتجاذب، فيدعي بعض المنظرين أنهم جاؤوا بالقول الفصل في الشعر وتجلياته، على حين لا يحسم الموضوعيون منهم رأيهم في هذا الأمر فيتركون للشعر بحراً يغرف منه ويضيف إليه ويسبح فيه كل من شاء، ولكنه يبقى حاملاً غموض البحر وثورته ورمزيته، وما فيه من أسرار. لذا فإنه من الصعب وضع تعريف جامع للشعر، وهذا بحد ذاته ميزةٌ فضلى للشعر، تمنعه من أن يكون محدوداً مقولباً، ليبقى أمام المتلقي مهمة استحضار النص والمشاركة فيه مع الشاعر والبحث في كل ما قدمه ويسعى إلى تقديمه، لتظل أسئلة حضور الشعر عبر تاريخه الطويل، لافتةً ومدهشةً مع كل مرحلة ومع كل شاعر، لا بل مع كلِّ قصيدةٍ على حدة.
لم تستطع النظريات التي حاولت تحديد العلاقة بين الشعر والمتلقي أن تحيط بالمسألة كلها لتبسيطها بل على العكس ساهمت في زيادة تعقيد الأمر، فبين نظرية «الشعر للشعر» المستقاة من نظرية «الفن للفن» ومقابلتها نظرية «الشعر الجماهيري» تاهت العلاقة بين الشعر والقصيدة والمتلقي؛ فمثلاً إن نظرية «الشعر للشعر» جعلت العلاقة ثنائية وحذفت مُعامِلَ «المتلقي» من المعادلة نهائياً تاركة الرابط محدوداً بالشاعر والنص، ليذهب الشعراء في تهويمات نفوسهم مغرقين في استكشاف غموضها، محاولين علاج سقم أرواحهم الخاصة؛ متجاهلين أهمية مشاركة المتلقي فيما يكتبون وإمكانية أن تقدم له القصيدةُ ما يريد.
تظهر هنا براعم الأشواك في مصطلحاتٍ مثل الجماهيرية والمتلقي، فعلينا أولاً أن نسير على درب هذه الأشواك التي لا بد أن تخمش أفكارنا، ولكن الفكر النظيف لا يسيلُ إلا فكراً، فالمتلقي يمكن أن يكون النفس البشرية وحين يقوم الشاعر بحوارٍ (مونولوج) مع ذاته عبر اللغة فإنه بذلك قد يصل إلى الأنفس الأخرى، فالذات البشرية واحدة، وقصة حب عنترة وعبلة هي قصة حبنا أجمعين، تختلف الأسماء والحالة والزمن، ويبقى الحبٌّ واحداً في ملكوته، فالمتلقي عندما يكون نفس الشاعر فإن الشعر قد ينعكس بشكلٍ واضح وشبه مباشر على نفوس الآخرين، ولا خوف حينها من الانغلاق الذاتي والذهاب الأبعد في التغريب والانعزال، وبالمنحى الآخر فإن معنى الجماهيرية هو مفهوم سياسي في الأصل جاء مع المد الاشتراكي وأفكاره الشمولية، وتفترض هذه المقولةُ أن للشعرِ دوراً سياسياً واجتماعياً مباشراً، ولذلك فإن عليه أن يصل إلى «الجماهير العريضة» وعلى الشعر هنا أن يرفع من وعي الطبقات الجاهلة في المجتمع لأنها الأكثر عرضةً للظلم والاضطهاد، ليحرضها على الثورة والتغيير، وهنا يتضح الفهم القاصر التوظيفي للشعر، وعليه فإن أي خلل أو تقصير في استقبال الجماهير للقصيدة، يحمل الشاعر مسؤوليته المباشرة تجاهها لأنه عجز عن إيصال كلمات إلى هذه الشرائح البسيطة التي ربما -أو غالباً – لا تقرأ ولا تكتب. فهذا الفهم للشعر واعتباره للعامة التي تتغنى به فكرةٌ مدحوضة وفي أفضل الأحوال فإنها قيد النقاش، فإن الشاعر أوفيد اليوناني (43 ق. م – 18 م أي إنه عاصر فجر التاريخ الميلادي الرسمي)، يشكو في كتابه (فن الهوى) ويعبر عن مرارته عن أنه ولد متأخراً عن الزمن الذهبي للشعر الذي كان فيه الناس يحتفلون بالشعر والشاعر، فأين هذا الزمن؟! إذا كان أوفيدُ لم يعشه؟
ما يجب الاتفاق عليه، أن فكرة الإجماع الجماهيري تجاه الأدب والفن هي حالة غير موجودة، وخاصة في موضوع الشعر الذي يرتبط بالمهارة اللغوية والفكر والثقافة بشكلٍ أساس، وقابلية التذوق للمجاز والتكثيف الأدبي وخلافه من الأدوات الأكثر التصاقاً بالشعر، ولذا فإن الإحصاء العددي للقراء والمتعاملين مع الشعر موضوع قاصر وغير دقيق في التعبير عن أهمية وميزات الشعر، حيث تبقى مهمة الاشتغال على زيادة عدد متلقي الشعر مهمة تربوية وتعليمية وثقافية وإعلامية وقبل كل هذا سياسية، لأنها مهمة مؤسسات ووزارات وخطط تجهد بها دولة لا أفراد، وهذا يتقاطع مع قول مايا كوفسكي: «إن الشعر لا يولد جماهيرياً، بل يصبح جماهيرياً بعد جهود كثيرة» وهذا ما يقصده مايا كوفسكي بالجهود، ولكن بالمقابل فإن إدخال الشعر إلى المؤسسات الرسمية وإلباسه الياقة وتمشيط شعره، وإجباره على التوقيع في بداية الدوام وفي نهايته، ثم إرساله للنوم مع زوجته ستحوله إلى كائن مخنوق يضمحل، فهو لن يصعد على المنابر ذات الخشب المهترئ، والاسمنت المتصدع، فالشعر مهرٌ جامحٌ لا يشيخ، ولا يحالُ على التقاعد، فقرّاء الشعر هم الذين يعرفون وسع الساحات والمروج التي يرمح بها هذا المهر، ولا همّ في عددهم إن كانوا قلةً أو كثرة، فهم نواة المجتمع وعقله المفكر وهم رأسه والأكثر قدرةً على الخوض في مجازات الحياة وتفاصيلها وانبهاراتها، والشاعر الأميركي ت. س. إليوت قال في هذا: «لا يهمنا أن يكون لشاعر جمهور كبير من المستمعين في عصره، إن ما يهمنا هو أن يكون له دائماً على الأقل، جمهورٌ قليلٌ من المستمعين في كل جيل» والأمثلة على صحة قول ت. س. إليوت كثيرة، فكم اضطهد شاعرٌ في عصر ثم جاء له جمهوره بعد رحيله، ألا نذكر بودلير وجون كيتس واليوم ألا يزال بيننا جمهورٌ للمتنبي والمعري وأبي تمام؟ فالشعراء تجارب والأدب تجربة، والشعر يجب أن يجهد فيه الشاعر ليصل إلى الناس لكن الظلم يقع حين تحمّل الشاعر وحده مسؤولية عدم انتشاره، وفي المنحى الآخر تعتبر الفوقية والانغلاق والذهاب بعيداً عن الناس، للدخول في تهويمات عقل الشاعر هي من الجنون والأمراض النفسية والعقد الاجتماعية وهي ليست من الشعر بشيء.