«أندريه كارلوف» شهيداً لديبلوماسية السلام الروسية.. مَنْ المستفيد؟

«أندريه كارلوف» شهيداً لديبلوماسية السلام الروسية.. مَنْ المستفيد؟

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢١ ديسمبر ٢٠١٦

فرنسا – فراس عزيز ديب

بنظراتٍ يملؤُها الحقد وبرصاصاتٍ غادرةٍ من الخلف، أنهى الإرهابي «ميرت اتلانتاش» حياة السفير الروسي في تركيا «أندريه كارلوف». إن كان الحدث يفتحُ باباً على الكثيرِ من التطورات، لكنهُ بالوقت ذاته يفتحُ أبواباً عن سيرِ العمليةِ وتنفيذها، والأهم عن المستفيدِ منها؟
هذا الحدث يأتي عكسِ كل الأحداثِ الإرهابية التي ضربت تركيا، والتي كان النظام التركي يستغلها لتصفيةِ حساباته مع خصومهِ السياسيين عبر اتهامهم بصورةٍ مباشرة حتى في الأحداث التي استهدفتهم: أن يصرخَ القاتل «الله أكبر» ويَخطبَ بالحاضرين بهذا الهدوء لدرجةٍ تجعلنا نشك ونحن نتابع حركة جسدهِ وتعابير وجهه أنه مطمئِنٌ بأن أحداً ما سيؤمن هروبه، وأن يعلنها صراحةً أنه عمل ذلك انتقاماً لحلب، فهذا يعني أن أحداً في النظام التركي لن يستطيعَ توجيه الاتهام كما جرت العادة لما يسمونها «منظمة انفصالية»، غامزين من قناة «حزب العمال الكردستاني»، مع التأكيد هنا أن المنظمة اليسارية لم يُعرف عنها يوماً أسلوب كهذا في إيصال رسائلها الملغومة باستهداف شخصيات من خارج الحلقة التي تمثل الأنظمة التركية المتعاقبة.
أما ما يتم تسريبه عن أن الإرهابي قد يكون منتمياً لحركة «فتح اللـه غولن»، فإنها فيما يبدو محاولاتٌ من النظام التركي للهروب نحو الأمام بتكرارِ الاتهامات التي وجهها يوماً للطيار التركي الذي أسقط الطائرة الحربية الروسية فوق «إدلب»، فإذا كان النظام التركي هناك تجاهل أن أعمدة النظام اعترفوا يومها أنهم مَنْ أمروا بإسقاط الطائرة، فكيف لهم هنا أن يتجاهلوا مثلاً أنهم وبعد مسرحيةِ الانقلاب قاموا بتطهير أجهزة الدولة- حسب تعبيرهم- وزجوا مئات الآلاف في السجون إما لأنهم (علمانيون كفرة أو لأنهم من أتباع غولن)، كيف نجا هذا الشرطي الذي ينتمي لجهازٍ أمني يعرف الجميع أنه من ركائز صمود النظام التركي حتى في مرحلة ما بعد الانقلاب، وهو كان على رأس عمله؛ أي لم يدخل خلسةً كما روج الإعلام التركي بعد الحادث، ولم يكن «شرطياً سابقاً»!
أما السؤال الأخير والأهم: إذا كان القاتل قد أنهى جريمتهُ، وأفرغ رصاصات مسدسِه، ولم يكن معه رهائن، فلماذا تم قتله؟ في مثلِ جرائم كهذه فإن الباحثَ عن الحقيقة يسعى للمحافظة على الجاني عبر شلِّ حركته، حتى لو كان مسلحاً، أما من يكره الحقيقة فهو يسعى للتخلص من الجاني لتموت معه، تحديداً إن صور الإرهابي توضح أنه قُتِلَ ولم ينتحر، لكن هل سيكون هناك من يتبنى فعلياً عملاً كهذا؟
ربما سيطول الأمر حتى يعلن تنظيم ما مسؤوليتهُ عن العملية، والأرجح أن أياً من التنظيمات الإرهابية المعروفة لن يُعلن ذلك تحديداً تلك التي تبدو شماعة يتم عليها تعليق العمليات في مثل حالات كهذه، والسبب واضح أن بقاء العملية في إطار «العمل الفردي»، أو «الجماعي الضيق» يبقى أهون الشرين بالنسبةِ للنظام التركي، لأن إعلان أي تنظيم تبنيهِ للعملية سيكون بمنزلة مقتلٍ سياسي للنظام الحاكم في تركيا، والقضية واضحة:
لنتخيل مثلاً أن «داعش» أعلنت تبنيها للعملية، علماً أنها سارعت لتبني العملية التي حدثت في برلين والتي تلت بساعاتٍ عملية الاغتيال، عندها سيظهر التنظيم ليس مخترِقاً لطيفٍ من أطياف المجتمع التركي فحسب، بل سيعني أن «داعش» دخلت «رسمياً» في أجهزة الدولة التركية، فهل يستطيع أحد بعد اليوم ضمان سلامته.
في حقيقة الأمر يبدو حادث الاغتيال نقطة مفصلية يلتقي عندها كل من يعادي السياسة الروسية في المنطقة، أو حتى من اضطر للسير بها «مكرهاً» كما النظام التركي. هل نبدأ بالأميركيين الذين لم يستطيعوا حتى الآن استيعاب خسارتهم للانتخابات الرئاسية، واتهامهم بوتين صراحةً بالمسؤولية عنها؟ هل يمكننا القول إن «أوباما» نفذَ وعده بالرد على بوتين باعتبار أن ضيق الوقت والهزيمة في حلب لا يعطيانه متسعاً للرد بطريقة مغايرة؟! في الواقع فإن «أوباما» لا يبدو الوحيد المعني بالرد، بل إن الوضع الحالي لبعضِ مشيخات النفط قد يدفعهم لما هو أبشع من ذلك، فما الدليل؟
عندما حكي عن اجتماع ثلاثي يضم كلاً من تركيا وإيران وروسيا لبحث التسوية السياسية في سورية، مترافقاً مع الحديث عن الموت البطيء الذي يعيشه «ائتلاف الرياض» لمصلحة اجتماع «الآستانة»، فهذا يعني حكماً أن الخاسر الأكبر من كل ما جرى هم تحديداً «آل سعود» و«مشيخة قطر»، فهم كانوا يعولون على العمليةِ السياسية لوضعِ يدٍ لهم في سورية تشبه لحدِّ بعيد «الحريرية اللبنانية»، تحديداً بعد خسارةِ عملائهم على الأرض، لكن هذا الأمر يدفعهم الآن للقول إنهم سيخرجون من المولد بلا حمص. خسارتهم لم تقتصر على سورية فحسب، ففي الولايات المتحدة باتت نظرة «ترامب» إليهم واضحة، أما في فرنسا فإن رفض «فرانسوا فيون» لقاء وزير الحرب عند «آل سعود» عندما قام بزيارةٍ خاصة إلى باريس، ناهيك عما تداوله الإعلام الألماني بعد حادث برلين عن «مراجعة العلاقات مع دول تؤوي المتطرفين». كل هذا يدفع الخاسرين نحو انتحارٍ ما، هم أرادوا من العملية الدفع بالروس نحو ردةِ فعلٍ عكسية تقوض على الأقل اللقاء الثلاثي، لكن المواقف الرسمية الروسية بما فيها موقف الرئيس «بوتين» كانت تتصف بما يمكننا تسميته «شجاعة الفرسان»، فهم لم يوجهوا الاتهامات ولم يسارعوا لأخذِ مواقف، لكنهم ببساطةٍ تعاطوا مع الحدث بعمقهِ الإستراتيجي لا بمحدوديةِ المكان والزمان، فماذا ينتظرنا؟
ربما ما ينتظرنا يمكننا قراءته من خلال «فهم التصريحات» التي أدلى بها الرئيس «بوتين» بعد الحادث؛ دعم العملية السياسية في سورية المترافقة مع دعم الجيش العربي السوري في الحرب على الإرهاب سيتواصل وسيزداد، وهو ما يلتقي مع الانتصارات التي يتم تحقيقها على الأرض. أثبت الهدوء الروسي في النهاية أنهم يتعاطون كدولة عظمى لن تتوقف فيها الحياة عند حدثٍ هدفه بالأساس كبح دورها المتصاعد، أما «أردوغان» فهو حكماً بات الآن بحالةٍ من الحرج لا يعلوها حرج. أما مشيخات النفط وفي الوقت الذي يعيش فيه الأميركي مرحلةً انتقالية، هم وحدهم القادرون أن يقتلوا القتيل ويمشوا بجنازته… لا بل يتباكون عليه ويصدرون البيانات التي تدين، لكن كل هذا لا يبدو بأي حالٍ من الأحوال سيحميهم من مصيرهم الآتي ولو بعد حين.