عن لقاء موسكو الثلاثي: محاولة تحليل.. بقلم: محمد صالح الفتيح

عن لقاء موسكو الثلاثي: محاولة تحليل.. بقلم: محمد صالح الفتيح

تحليل وآراء

السبت، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٦

استعجل إذاً الأصدقاء الألداء، روسيا وتركيا وإيران، عقد لقائهم الثلاثي في موسكو. فتم تقديم موعد القمة أسبوعاً من السابع والعشرين إلى العشرين من كانون الأول الحالي. بيان القمة ذو النقاط الثماني لم يشكل في الحقيقة أي ابتعاد عما بات يُعتبر من الثوابت المتفق عليها عند الحديث عن مسار إنهاء الحرب السورية: الالتزام باحترام سيادة أراضي الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها، تأكيد الطبيعة العلمانية للدولة السورية، القناعة بعدم وجود حل عسكري، التشديد على أهمية تمديد نظام وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، وإطلاق عملية سياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254. يكاد يكون إعلان موسكو 2016 نسخةً طبق الأصل عن إعلان فيينا 2015، ولعل الجديد هو الإشارة لسوريا بكونها دولةً «متعددة الأعراق والأديان» والدعوة لسلسلة من اللقاءات بين الحكومة والمعارضة السورية في العاصمة الكازاخية، أستانا، لتسريع المفاوضات في جنيف، والقبول الروسي الضمني بالتوقف عن العمل لتوسعة قائمة المنظمات الإرهابية، التي باتت تقتصر على تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة». الغالب أن حماس الدول الثلاث لعقد سلسلة اللقاءات في موسكو يعود لدوافع قد تكون أبعد بكثير من معركة حلب، بل قد تكون أبعد من الحرب السورية.
تركيا
لنبدأ مع تركيا التي تتركز الأنظار عليها هذه الأيام. كيف تفاعلت تركيا مع نتائج معركة حلب؟ هل كانت هزيمة الفصائل المسلحة في حلب سبباً في تغيير الموقف التركي ودفع أنقرة للتصرف بشكل عقلاني والنزوع للتعاون مع موسكو؟ أم أن نزوع أنقرة للتعاون مع موسكو قبل المعركة بأسابيع، والتوقف عن إرسال دعم إضافي للفصائل المسلحة، على نحو ما حصل مطلع الصيف الماضي، بل وتشجيع بعض هذه الفصائل، «أحرار الشام» تحديداً، على الجلوس للتفاوض مع الروس في تركيا، هو ما سهّل مهمة السيطرة على أحياء حلب الشرقية؟ لكل من هاتين السرديتين المتناقضتين ما يدعمه، ولكن قد يكون هناك تفسير ثالث أفضل.
في لحظة انتقال مفصلية بين إدارة أوباما، في مرحلة «البطة العرجاء»، التي لم تكن بوارد اتخاذ قرار عسكري غير مسبوق لمنع سقوط أحياء حلب الشرقية، وإدارة ترامب، التي لا يُعرف يقيناً حتى الآن طبيعة الدور الذي يمكن أن تطلب من تركيا لعبه، وجدت أنقرة أنه من المفيد أن تحدّ من خسائرها وأن تعمل على حشد أكبر قدر ممكن من الأوراق الرابحة في يدها. من المفارقات التي لم تحظَ بالاهتمام مؤخراً أن أنقرة، التي طالما قيل إن معركتها الأهم في سوريا هي معركة حلب، لم تكن الخاسر الأكبر من نتيجة معركة حلب. فلا علاقاتها ساءت بموسكو، على عكس علاقات العديد من العواصم الغربية، وجيشها يتقدم في ريف حلب الشرقي من دون أي اعتراض حقيقي من حلفاء دمشق (هل كان هذا جزءاً من اتفاق مقايضة ما، أم تفصيلاً يفضل المعنيون غضّ النظر عنه؟ سنعلم هذا لاحقاً)، والأهم أنها جلست في موسكو للتفاوض والمشاركة في صناعة خريطة طريق لإنهاء الحرب السورية، فيما غاب الأميركيون والأوروبيون والعرب. ولن يكون من المستغرَب أن نسمع قريباً أن أنقرة، في جنوحها الواقعي الحالي، قد ناقشت حجم حصتها في مشاريع إعادة إعمار سوريا، الكعكة التي ستزيد قيمتها على مئتي مليار دولار.
لم تتحسّن أوراق تركيا في وجه خصومها بل في وجه حلفائها كذلك. كانت إدارة أوباما قد ضغطت على تركيا لإرسال قواتها إلى داخل الأراضي السورية لمحاربة تنظيم «داعش»، وذلك عبر التلويح بالسماح للقوات الكردية بربط مواقعها عبر ضفتي نهر الفرات. قبلت أنقرة، بعد طول مماطلة وتردّد، بإرسال جيشها لغزو الأراضي السورية، وتعهّد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في اليوم الأول للغزو التركي بأن «قوات سوريا الديموقراطية» ستنسحب فوراً من منبج وتعود إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات. ولكن بعد قرابة أربعة أشهر لم يحصل الانسحاب المزعوم، برغم أن القوات التركية لم تتوقف عن التقدم في الشمال السوري، وباتت تخوض مواجهةً مرتفعة الكلفة مع «داعش». تشعر أنقرة كما لو أن واشنطن تتعامل معها كأداة يتوقع منها الطاعة التامة ولا تؤخذ مصالحها، ومخاوفها، بالحسبان. لهذا تحتاج أنقرة لأوراق جديدة تحسّن من شروط علاقتها بواشنطن، وتبقيها لاعباً مهماً في المرحلة المقبلة من الحرب السورية. بجلوسها للتفاوض مع الروس والإيرانيين، تبدو أنقرة في وضعٍ مثالي للخروج بأقل الخسائر مهما كان المسار المقبل للحرب السورية. فلو مضت واشنطن نحو تفاهم ما، فستكون أنقرة حاضرةً فيه بشكلٍ فاعل، ولو قررت إدارة ترامب رفع وتيرة تسليح الفصائل المسلحة، والاستفادة من الضوء الأخضر الأخير الذي منحه الكونغرس لوزارة الدفاع، فستكون أنقرة كذلك حاضرةً بقوة، فهي أحد مسارين اثنين لا ثالث لهما لنقل السلاح إلى الداخل السوري.
روسيا
برغم كل الحديث عن وجود عناصر مهمة في إدارة ترامب ـ على رأسها بالطبع ترامب نفسه – تنزع للتعاون مع روسيا وتتجنب نزعة شيطنتها، تدرك موسكو أن الانتقال إلى شهر عسل جديد مع واشنطن لن يكون انتقالاً تلقائياً، ولن يكون انتقالاً سهلاً. الانتقال من مرحلة الحرب الباردة الجديدة نحو المهادنة يمرّ بالضرورة بتطوير حزمةٍ من الأوراق القوية: توجيه ضربة قوية في الميدان السوري ستدفع البعض في واشنطن باتجاه التشكيك في إمكانية بقاء الفصائل المسلحة. كذلك، فإن إعلان موسكو مضيها نحو وقفٍ لإطلاق النار والتأكيد على الحل السياسي لا العسكري، يسمح لواشنطن بالحفاظ على ماء وجهها فلا تبدو وكأنها قد هزمت في سوريا وباتت تماماً من دون أي خيارات. وبالتزامن مع كل هذا، تستمر موسكو بالتأكيد على أن مساعيها مستمرة لتطوير قدراتها العسكرية. تصريحات الرئيس الروسي منذ يومين حول ضرورة العمل على تطوير القدرات النووية والصاروخية الروسية وأن «روسيا أقوى من أي معتدٍ محتمل»، وتصريحات وزير الدفاع الروسي بأن موسكو قد غطت للمرة الأولى في التاريخ كل حدودها بقدرات دفاع صاروخي وإنذار مبكر، تهدف للتأكيد بأن موسكو التي تراهن على تحسن العلاقات مع واشنطن في عهد ترامب، لا تتحرّك من موقع الضعف. الانتقال من خانة العداء إلى خانة المهادنة لا يمر فقط بالتصريحات الوردية بل يمر، ربما قبل ذلك، بالتأكيد على أن البارود يبقى جافاً ووفيراً.
إيران
ربما كانت طهران أكثر المستعجلين لعقد اللقاء الثلاثي، فمنها خرج الإعلان عن تقديم موعد عقد اللقاء، والأهم أنها باتت تستشعر أن سنوات ترامب في المكتب البيضاوي ستكون غالباً سنواتٍ ثقيلةً عليها. ولهذا فمن المفيد لطهران أن تسارع الخطى لترسيخ مكاسبها وموقعها في الإقليم وتطور كذلك شبكة علاقاتها وتحالفاتها. نجحت إيران بالحفاظ على علاقة متينة ومستقرة مع تركيا طوال السنوات الست للحرب السورية، ونجحت خلال الأشهر القليلة الماضية بالبقاء على الحياد عندما تقدّم الجيش التركي وغزا الأراضي السورية. الحفاظ على علاقة مستقرة مع أنقرة بات ضرورةً ملحةً أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً وقد بات من المرجح أن تعمل إدارة ترامب على حشد كل حلفائها في المنطقة في وجه إيران. وتركيا، التي نجحت خلال سنوات حكم أوباما الثماني بلعب ورقة الإسلام المعتدل، قد تجد نفسها مضطرةً للتعاون مع المشروع الأميركي المعادي لإيران، إذا ما أرادت أن تحتفظ بلعب دورٍ مهم في السياسة الأميركية في المنطقة. الحفاظ على علاقة جيدة مع أنقرة سيقلل من تأثيرات مثل هذا الاندفاع.
تدرك إيران كذلك أن إعادة إقلاعٍ ثانيةٍ للعلاقات الأميركية الروسية قد ينعكس سلباً عليها، كما حصل في المرة الأولى (في فترة 2009-2011)، يوم أدركت واشنطن أنها بحاجة للتعاون مع موسكو لتمرير العقوبات الأممية على طهران في ما يخص برنامجها النووي، وكذلك لعرقلة صفقات أسلحة روسية مهمة لطهران (لنتذكر هنا أسباب تأخر تسليم منظومة «إس-300» لسنوات). لهذا تسعى إيران لتحصين علاقتها مع روسيا وتجنب عوامل التأزيم والخلاف قدر الإمكان، وهذا ما يفسّر، على سبيل المثال، عودة الحديث عن السماح لموسكو باستخدام قاعدة «همدان» الجوية.
الخاتمة
برغم أن الدول الثلاث تنطلق في لقائها الأخير من دوافع أبعد بكثير من الحرب السورية، إلا أن اللقاء كان تحت مظلة التوصّل لخريطة طريق تُنهي الحرب السورية. هذا هو موضوع الساعة ولا مفرّ من الإجابة على السؤال التالي: هل سيقود اللقاء الأخير فعلاً لتسريع إنهاء الحرب السورية؟ قد تكون المشكلة الأكبر هنا هي العناصر الغائبة عن الاجتماع. الأوروبيون مستاؤون من سيناريوات التقارب الأميركي الروسي المحتمل. لا بد من التوقف عند الإعلان عن إرسال مستشارين عسكريين بريطانيين لتدريب المعارضة المسلحة السورية، لماذا تختار بريطانيا أن تنخرط متأخرةً في مسعى معادٍ لروسيا؟ هل تسعى لعرقلة التقارب الأميركي الروسي، الذي سينعكس بالدرجة الأولى على الأمن الأوروبي، عبر التأثير على إدارة ترامب وإقناعها بالانخراط أكثر في الميدان السوري؟ وماذا عن الثلاثي الخليجي السعودية والإمارات وقطر؟ الأخيرة لم تتوقف عن إطلاق التصريحات حول حلب وتبنّت موقفاً رسمياً معادياً للغاية، فهل هي قراءةٌ خاطئةٌ، أخرى، أم رهانٌ على التأثير على دوائر معينة في واشنطن؟ ماذا عن السعودية التي باتت تتحرك بشكل أكثر تفاؤلاً بعد الاتفاق على تحسين أسعار النفط وتخفيض العجز في ميزانية 2017 إلى 52 مليار دولار، بالمقارنة مع قرابة 90 مليار دولار في ميزانية 2016؟ ونرى بوضوح كيف أن السعودية باتت تنفق من مواردها للضغط على مصر، فقط لأن الأخيرة لم تنخرط في الحروب السعودية، فهل ستتخلى السعودية عن حروبها في المنطقة؟ في الحقيقة، كل هذه هي تفاصيل ثانوية مقارنةً بالسؤال الأهم: هل يراهن كل السوريين على الحل السياسي؟