أردوغان ما بعد جريمة داعش

أردوغان ما بعد جريمة داعش

تحليل وآراء

الأحد، ٢٥ ديسمبر ٢٠١٦

إيهاب زكي - بيروت برس -

هل نكون من المنصفين لو قلنا بأن السلوكيات الإجرامية لداعش تجاه جنود الجيش السوري كانت تلاقي الفرح والرضا التركي رسميًا وشعبيًا، قطعًا لا، بل سنكون من الظالمين، حيث أن الأتراك الرسميين هم شركاء داعش في تلك الجرائم بكل ما قدموا لهم من تسهيلات وإمكانيات، حد أنه لولا الدور التركي لما قامت أصلًا لداعش قائمة، لذلك فقد كانوا يعتبرون جرائم داعش هي انتصارات لهم، لا مجرد أفعال تدخل الأفراح على قلوبهم. أما شعبيًا، فلا أملك إحصائيات رسمية سوى ما تنتجه صناديق الانتخاب، وقد أتت بحزب أردوغان في خضم ولوغه بالدم السوري حد الكتفين، وبغض النظر عن أسباب الناخب لانتخاب أردوغان وحزبه، فقد ساهم في تلقيم مسدس داعش وسن سكينها حين أعطى صوته لأردوغان وحزبه، وهو من أعطاها الشرارة التي أطلقتها لإحراق الجنديين التركيين بشكل مهين، بعد أن جعلتهم يمشون كالكلاب على أربع، ولكنه في العرف القانوني والإنساني والشرعي والأخلاقي، فإن قتل القتلة بعضهم البعض لا يصبح أمرًا مشروعًا لمجرد أنهم قتلة.

أثبتت هذه الجريمة التي ارتكبها داعش أن الأتراك لا يملكون القرار في داعش، بل أنهما مجرد شريكين في تنفيذ المخططات الأمريكية مع هامش يتناسب مع حجمهما ومآربهما، فكل ما قدمته تركيا لداعش لم تكن لتفعله دون الأوامر الأمريكية، ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلًا، نستطيع استجلاء الصورة بشكلٍ أكثر دقة، فحين دخلت تركيا إلى الأراضي السورية وإلى جرابلس أحد معاقل داعش دون إطلاق نار أو دون معارك حقيقية، فهذا يعني أن التواصل التركي الروسي كان بمباركة أمريكية وليس تمردًا تركيًا على أمريكا سيصب في المصلحة الروسية السورية، لذلك فقد صدرت الأوامر أمريكيًا لداعش بتسهيل مرور القوات التركية إلى جرابلس، وبعيد المشاورات الثلاثية الروسية الإيرانية التركية في موسكو، أقدمت داعش على ارتكاب جريمتها. هل نستطيع الجزم بأنها رسالة أمريكية إلى أردوغان، إذا استطعنا الجزم بأن أردوغان قدم وعودًا تتنافى مع المصالح الأمريكية، نستطيع الجزم بتلك الرسالة، ولكن هل تركيا دولة بحجم أن ترسل لها الولايات المتحدة بالرسائل، في الحالة الطبيعية لا، فهي مجرد تابع وبحجم اتصال هاتفي من أي مسؤول أمريكي، ولكن في ظلال رحيل أوباما باعتبارها مرحلة عجز، يحاول أردوغان تجربة التنفس بحرية.

من المفترض أن يكون التصرف الطبيعي والمباشر لأردوغان بعد جريمة حرق الجنود، هي إغلاق الحدود في وجه داعش، ومنع تزويده بالمؤن والعتاد والرجال، وتجريم كل أشكال التعامل معه، تجاريًا واقتصاديًا واستخباريًا وصحيًا، خصوصًا بعد ما قال البغدادي في رسالته لتركيا وهي بمثابة إعلان حرب "سنجعل أمنكم فزعًا ورخاؤكم هلعًا"، ولكن هذا لم يحدث ولن يحدث، فهذا القرار ليس قرارًا تركيًا على الإطلاق، فالدور التركي هو تنفيذي بحت، لذلك فقد سارع أردوغان لتبرئة ساحته من دعم الإرهاب أمام الأتراك، حيث قال "إن الجيش الحر هو مقاومة وليس إرهابيًا"، وكأنه يحاول القول إنّ هؤلاء ليسوا دواعش، ولكن هذا التصريح التجميلي هو أكثر من اتهام، إنه اعتراف أنه لا فرق فكلهم دواعش. وكان أوباما وعلى هامش اجتماع موسكو قد وقّع قرارًا يسمح بتزويد ما يسمى بـ"المعارضة المعتدلة" بأسلحة مضادة للطيران، وأعاد أردوغان بعدها الحديث عن مناطق آمنة، وأعتقد أن أوباما وبشكلٍ شخصي أراد أن يقول لأردوغان كما قال لـ"نتن ياهو" ما زلت أنا الرئيس، فمرر قرار إدانة الاستيطان في الضفة الغربية، رغم كل ما فيه من تجنٍ على جغرافية فلسطين التاريخية وبكل ما فيه من تجريمٍ للمقاومة، لكن نتن ياهو اعتبره تخليًا أمريكيًا عن "دولته" وقال أنه سيمارس سياسة الصبر لحين تسلم ترامب لمنصبه رسميًا لمحاصرة آثار القرار، وهذا ما فعله أردوغان أيضًا حين تحدث عن لقائه المرتقب بالرئيس المنتخب دونالد ترامب.

والحقيقة أن أكثر ما يثير السخرية هي تلك الأقلام والألسن التي تحاول أن تجعل من أردوغان شخصًا استقلالي النزعة، فبالرغم من عشرات الشواهد على تبعيته وهو انه يقول مثلًا استاذ الأخلاق السياسية في جامعات قطر محمد الشنقيطي، "أن تركيا اليوم تعيش نفس موقف الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، بين مؤيدٍ للتدخل في سوريا ورافضه، ولكن حين انتصر مؤيدو التدخل، سيطرت أمريكا على أوروبا الغربية وأصبحت القوة العالمية الأولى، ومستقبل تركيا ومكانتها رهينان بما تفعله اليوم في الشام والعراق"، ومشكلة هذه النخبة أن الإعلام النفطي يتعامل معها على قاعدة "بضاعتنا ردوها إلينا" فهم يستقون معلوماتهم وأخبارهم من ذلك الإعلام، وهو ما يشكل لديهم منطلقًا للتحليل وبالتالي الاستنتاج، لذلك فن استنتاجاتهم غالبًا ما تكون مزرية وسخيفة ومستهجنة الصدور عن قامات علمية وأدبية، فهم ينطلقون من وقائع مزورة وأحداث مفبركة وواقع موهوم ومتوهم، وهذا ما يقدمه لهم إعلام النفط، ولأنهم لا يبحثون عن أي شيء إلا الحقيقة فيستنتجون ما يريده النفط وواقعه المزور، فيعيدون إليه بضاعته ليلتهمها جمهوره المغيب. لذلك فحتى الآن لا يمكن الرهان على تغير في الموقف التركي، فقبل أن تقوم تركيا بثلاث خطوات متزامنة لا يمكن كسب رهان التغيير، أن تغادر حلف الناتو أولًا، وأن تلغي طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الأبد ثانيًا، وأن تتخلى عن المشروع الإخواني والذي كان أيضًا برعاية أمريكية وأيضًا إلى الأبد ثالثًا.