المرأة والسلطة .. بقلم: الدكتورة ندى الجندي

المرأة والسلطة .. بقلم: الدكتورة ندى الجندي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٦

أتُراها تعود شهرزاد من جديد بعد أن اختنق صوتها ولم تعُد تستطيع البوح بما يجول في قلبها؟
 
أي حكاية تروي وهي تقضي ليلها في عبثية قاتلة بعد أن ضاقت بها الدنيا في زمن ينهش الإنسان أخاه الإنسان... ظلمة القبور خيمت الأجواء واكتسحت الدماء والدموع حياة النساء.
 
ولم تعد المرأة تجد آذاناً مصغية تنصت إليها، فتاهت الكلمات، وتبعثرت كما تاه إنساننا ولم يبقَ في الأصداء إلا صدى صوت أنينها.. فلا حياة لمن تنادي.
 
أين الإنسانية؟ في زمن البربرية الجائرة ألا تكون المرأة هي الضحية الأولى؟!
 
ولكن هل تسود البربرية في زمن تمتلك فيه المرأة المكانة اللائقة!
 
شهرزاد سجينة الليل؛ ليل ليس كأي ليل، ليل مظلم في سكراته، ما إن ينجلي حتى يختنق صوتها، يصدر حكم إخفائها، النساء في عصرها خلف القضبان ينتظرن قرار حتفهنَّ، ولكن كيف يمحو الليل وجود المرأة؟
 
الليل طويل.. كيف له أن ينتهي بالموت، أما من فجر مشرق يحمل ولادة جديدة؟
 
وربما رؤية مغايرة تبعث الأمل وتحيي القلوب الميتة.
 
شهرزاد عبر صوتها.. كلماتها.. كلمات ليست كأي كلمات، بذور إشعاع تحرض الفكر على طرح الأسئلة، كلمات تدعو للتفكر عبر حكايات تقدم أمثلة حية تعالج فيها مسائل وجودية كل ليلة حكاية، لابدَّ من ليلة أخرى حتى تكتمل معها الرؤية.. وتمضي الأيام وشهرزاد لا تتوقف عن الكلام المباح، ليلة تلو أخرى حتى صارت ألف ليلة وليلة، توجت فيها هذه المرأة ملكة في قلب شهريار وعاد قلبه ينبض بالحياة.
 
من عرف الحب يتوه الشرّ عنه، أي صوت كانت تمتلكه شهرزاد، وأي كلمات كانت تفضي بها في آذان شهريار؟ عادت لليل سكينته وسطعت في السماء نجومه.. وما زال صوت شهرزاد يصدح بعذب الكلام، ولكن هل شخصية شهرزاد حقيقية أم من نسج الخيال؟ أما من امرأة تحيي بصوتها الضمير النائم؟؟
 
ألم يعرف التاريخ نساء قد تمتعن بالذكاء والحكمة، وكان لهن دور بارز في السلطة؟ وهل تستطيع المرأة الوصول إلى السلطة أو انتزاعها من الرجل إذا لم تكن تتفوق عليه ذكاءً وثقافةً، وتمتلك حدساً قوياً، قديماً كانت الآلهة أنثى.
 
الأنثى هي الأم (الحب غير المشروط) هي الأرض، هي الحب، وهي السلام؛ أي هي الحياة، حملوها الخطيئة الأولى، وكانت السبب وراء طرد آدم من الجنة وبالتالي قد تقود العالم إلى الهزيمة!
 
فأين هي من السلطة وهل هي أهلٌ لها؟
 
المرأة والسلطة.. البعض يقول إنهما وجهان لعملة واحدة!
 
قد تكون جارية في العلن، ولكن في الخفاء هي الحاكمة، وربما تكون العشيقة ولكنها هي الصانعة في السياسة والتاريخ، ذكر العديد من النساء تمتعن بالنفوذ والسلطة بمجرد أنهن حظين بالتقرب من الملك، وقد تؤول إليها السلطة بشكل تلقائي لكونها زوجة الملك أو ابنته أو تستحوذ عليها باستخدام العنف والمكر، كما حدث مع ملكة مصر القديمة كليوباترا، حيث لم تحظَ امرأة شهرةً مثلها، كتب عنها الكثير، وكانت محور العديد من أفلام السينما العالمية، ومصدر إلهام العديد من الفنانين التشكيليين، فأي غموض يكتنف شخصية هذه المرأة، وقد استحوذت قلب أهم رجلين في عصرها سيزار ومارك أنطوان.
 
ما سرُّ هذه المرأة وأين تكمن قوتها؟ أهو جمالها الساحر وجاذبيتها التي تغنى فيها الشعراء؟
 
أهو ذكاؤها وحكمتها حيث كانت لا تُقدم على أي فعل من دون التخطيط المسبق له، أم هي ثقافتها حيث كانت تتقن سبع لغات وهذا نادر لامرأة في عصرها، أم هو حديثها الذي كان يثير اهتمام عقول الفلاسفة آنذاك؟ أم هو حبها للسلطة، فلا شيء يقف في وجهها في سبيل الحفاظ على عرشها وعلى مملكتها؟!
 
أم هي شراهتها للجنس؟ حيث كان يُعرف عنها أنها كانت تُنهك عبيدها وهي تمارس معهم الحب وقد وصفها Lucain (شاعر لاتيني) بأنها كانت تكره الرجال العاجزين عن إشباع رغبتها، أم هو الحب..؟ لا شيء سوى الحب جعلها (ملكة الملوك) في عصرها فمن تكون هذه الأنثى؟
 
إنها كليوباترا ابنة بطليموس الثاني عشر توجت ملكة على عرش مصر وهي في الثامنة عشرة من عمرها.
 
بعد وفاة والدها (بطليموس الثاني عشر) ورثت العرش مع أخيها الصغير (غير الشقيق) بطليموس الثالث عشر، وكان عمره أحد عشر عاماً.. ولكن الأمور ساءت بينها وبين أخيها الصغير بسبب تفردها في الحكم نظراً لصغر سنِّه، ودار النزاع بينهما، انتهى بطردها من مصر فلجأت إلى سورية وكانت مصر آنذاك تابعة للمملكة الرومانية.
 
ولكن كيف تستعيد كليوباترا عرشها المفقود؟
 
فما كان منها إلا البحث عن الحليف القوي ومن يرتبط بعلاقة وثيقة مع حليف قوي قوامها الثقة لا ينهزم بسهولة.
 
ولكن من هذا الحليف القوي؟
 
إنه سيزار ملك الروم، جاء إلى مصر بعد هزيمة بومباي في فرسالوس، ولكن أي وسيلة استخدمت كليوباترا في إقناعه لمساعدتها؟ هل اعتمدت على ذكائها.. جمالها.. أم اعتمدت على الإغراء وهي المعروف عنها أنها سيدة في فن الإغراء؟ كانت تهب نفسها لعبيدها في المساء وفي الصباح تسقيهم السمَّ لتجربه عليهم وكأنها تهبهم الحياة قبل الموت، للوصول إلى غايتها، وللتقرب من سيزار قدمت له نفسها في سجادة ملفوفة.
 
عظيم الروم تظهر له فجأة فاتنة، ساحرة في جمالها وأناقتها، امرأة ليست كالنساء التي عرفها في حياته ملكة في إحساسها، مثيرة في حديثها، وقع سيزار في شباكها وخفق قلبه حباً لها، أقنعته بأهليتها في الحكم، فساعدها على استعادة عرشها وانتصرت على أخيها الذي أُغرق في نهاية المعركة في نهر النيل.
 
لم يعد من منافس لكليوباترا على عرشها وتزوجها سيزار.
 
يشير بعض المؤرخين إلى أنه كان زواج المصالح المشتركة، فمصر كانت بالنسبة لروما المصدر الوحيد للقمح، وكليوباترا بحاجة إلى جيش قوي لاستعادة عرشها المفقود، بحاجة للمال، لقاء تلتقي فيه المصالح، إنه زواج الشرق والغرب بما يجسد لغة اتحاد قوى لا تفنى معاً.
 
أدركت كليوباترا أنها لا تستطيع الاعتماد فقط على جاذبيتها، لابد من رابط أقوى يجمعها مع سيزار فأنجبت له طفلاً (سيزاريون) وانتقلت معه للعيش في روما.
 
كان حلم كليوباترا استعادة مجد مصر وقوتها وجعلها موازية لروما الذي اتسع نفوذها، ولكن الأحداث لم تتطور، كما شاءت، حيث نتيجة مؤامرة مدمرة تم اغتيال سيزار فتركت روما وعادت إلى مصر.
 
بعد موت سيزار اقتسم مارك أنطوان (Marc Antoin) وأوكتاف (octave) حكم المملكة الرومانية، فكان الشرق من نصيب مارك أنطوان، وبالتالي فإن مصر تابعة لحكمه، والآن على كليوباترا أن تتعامل مع وجه جديد من حكام روما فما استراتيجيتها للدخول في شراكة مع خليفة سيزار (cesar)؟
 
كيف كان لقاؤها الأول معه وأي مفاجأة كانت في انتظاره؟
 
مارك أنطوان محارب قوي، شاب وسيم جذاب كان يتوقع أن تكون كليوباترا في انتظاره في ساحة المدينة ولكنها لا تريد أن تترك سفينتها.
 
عرفت أنه محارب شديد، وكانت تدرك أنه يحب التفاخر، فما كان منها إلا أن تدعوه إلى سفينتها، سفينة أقواسها من الذهب، حطت في شواطئ طرطوس.
 
أولت كليوباترا سفينتها عناية فائقة، وبذخت الكثير من المال حتى تُبهر مارك أنطوان أقواس ذهبية، ستائر أرجوانية، المجاذيف فضية تُجذف في المياه تحت أصوات المزامير، ملكة جذابة مستلقية تحت مظلة ذهبية ويحيط بها العبيد مرتدين أفخم الثياب، ونساء شابات يرتدين ثياباً شفافة، وكأنهن حوريات يُحطن بأطراف السفينة، وفي الأجواء رائحة العطور تفوح من كل ركن، أجواء ساحرية تستهوي القلوب وتطلق العنان لخيال جامح بالأحلام.
 
وكأنها أفروديت آلهة الجمال مستلقية وسط الشموع تفوح منها رائحة شذية، كان لقاء فريداً من نوعه، ذهل مارك أنطوان بهذه الأنثى الإلهية، كانت تدعي بأنها تجسيد للآلهة (إيزيس isis) آلهة الخصوبة والأمومة وأفروديت آلهة الجمال.
 
كانت كليوباترا ثرية جداً، وتستهلك الكثير من المال في أناقتها ومظهرها، حتى يقال إنها عندما كانت مع مارك أنطوان انتزعت قرطها، وهو عبارة عن حبة لؤلؤ كبيرة
 
ونادرة، أذابتها في كأس من الخل وشربتها، فهي ليست بحاجة للمال، إنها تبحث عن الحب.
 
شغف قلب مارك أنطوان بهذه الفاتنة ووقعت الملكة في غرام هذا الرجل الجذاب الذي كان يدعي بأنه ابن (ديونيسوس Dionysos) إله الحب والخمر.
 
علاقة حب نادرة توجت هذا اللقاء، كانوا يعتقدون بأنهما يشكلان بالتقائهما الزواج الإلهي الذي يجمع الشرق والغرب، قصة عشق دامت أكثر من عشر سنوات، ولكن القدر الأسود يلاحق هذين العاشقين.
 
أوكتاف كان رجل سياسة محنكاً وحذراً، استغل قصة حب مارك أنطوان لكليوباترا وبمساعدة المحافظين في روما، عمل على تشويه صورة مارك أنطوان "أيستحق هذا الرجل مارك أنطوان أن يكون حاكماً وهو واقع تحت تأثير امرأة أجنبية ساحرة مغرية جعلته يبتعد عن الطريق المستقيم".
 
دعاية كاذبة تم من خلالها تعبئة الرأي العام ضده في روما، حملة إعلانية مهدت تجهيز الجيوش لمحاربته، حرب نفسية تقهر أعظم المحاربين.
 
كان الرومان يعتقدون أن الفراعنة آلهة بشكل إنساني والأهرامات تبهرهم بعظمتها، غير الممكن أن تكون من صنع الإنسان فمصر غامضة ومخيفة وما نخافه يجب محاربته والقضاء عليه.
 
دارت الحرب وانتصر أوكتاف على مارك أنطوان، فانسحب العاشقان إلى الإسكندرية. هزيمة كبرى لجأت بعدها كليوباترا الى معبدها حيث اختبأت فاعتقد مارك أنطوان انها ماتت فأخمد السيف في جسده , عندما علمت كليوباترا ما حدث لحبيبها أمرت بأن ينقل اليها, مارك أنطوان لم يمت بعد كان يحتضر, تم نقله الى معشوقته حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها
 
أما كليوباترا فعرض عليها أوكتاف أن تكون سجينة في قصر من قصوره في روما، فهو يريد أن يُلحق مصر بإمبراطوريته، ولن يقع فريسة جاذبية هذه الملكة، بل أراد إذلالها، ولكن المرأة الحرة لا تقبل أن يختنق صوتها ويُلغى وجودها، الحرُّ لا يكون تابعاً أبداً، فاختارت الموت، ثعبان الكوبرا السامة شعار المملكة في العصر البطليمي، وضعت الثعبان على صدرها، لدغة سامة في ثديها الأيسر أودت بحياتها.
 
وانتهى معها حكم البطالمة في مصر، صارت مصر تابعة للمملكة الرومانية.
 
العاشقان مارك أنطوان وكليوباترا اختارا الموت بدلاً من أن يُجرا ذليلين في شوارع روما.
 
بعد النصر غالباً كانوا يحطمون تماثيل الحكام المغلوبين، ولكن أوكتاف أمر بتحطيم تمثال مارك أنطوان فقط والاحتفاظ بتمثال كليوباترا.
 
لم يستطع امتلاكها وهي على قيد الحياة، فلمَ لا يمتلك صورتها وهي ميتة ويحتفظ بتمثال امرأة كانت حلم كل رجل في عصره، وربما عبر العصور أيضاً، فكليوباترا لم تمت، وما زالت حية في ذاكرة الشعوب الجماعية.
 
الاطلاع على مسيرة حياتها يعكس أوجهاً مختلفة امرأة ذكية، مغرية، مثقفة، نرجسية، متسلطة، عاشقة، شبقة للجنس والسلطة، تمتلك من قوة الحدس ما لم تمتلكه مثيلاتها من النساء، أوجه مختلفة أين الحقيقة؟
 
يجب ألا ننسى أن الرجل هو من كتب التاريخ، وصورة كليوباترا جاءت بالصورة التي كان يراها فيها ووفق ما يريد أن يرى!
 
صور مختلفة لامرأة عُظم من شأنها في التاريخ، قد تكون هذه الصور واقعية، أو من شبح الخيال، ولكن جميعها تعكس حقيقة واحدة مفادها أنها كانت امرأة حرة في عالم الرجال، وكان صوتها يحقق إرادتها، لأنه يعكس فكراً حراً، فكراً يقود ولا ينقاد، فكراً هيأها لأن تمتلك السلطة، وعندما أرادوا إخناق صوتها أنهت حياتها.
 
اختارت حياتها، واختارت مماتها.
 
المرأة والسلطة لا تستطيع أبداً الوصول إليها إذا لم تمتلك سلطة حياتها، تمتلك صوتاً مرهفا يعكس فكراً حراً مدركا خفايا ما يجري حوله.
 
في يومنا هذا اكتسحت الظلمة وجودنا اما من صوت يحيي القلوب
 
أتُراها تعود شهرزاد من جديد؟