مأزق تركي من اسطنبول إلى الباب

مأزق تركي من اسطنبول إلى الباب

تحليل وآراء

الأربعاء، ٤ يناير ٢٠١٧

إيهاب زكي - بيروت برس -

قد أُتّهَم بالخبال أو الجنوح الفكري على أقل تقدير، فيما لو قلت أن أردوغان ونظامه هم من يقفون خلف العمل الإرهابي في اسطنبول، والغريب أن أول من سيوجه هذا الاتهام هم من قالوا عن العمليات الإرهابية التي كانت تضرب الأسواق والساحات والمستشفيات والمدارس والمؤسسات في سوريا، أنها من تدبير "النظام السوري" لتشويه صورة "الثورة"، وتم التعامل مع خبالهم ذاك باعتباره عين المنطق وحق اليقين، رغم أن ما يسمى بـ"الثورة" ولدت مشوهة بشكلٍ يستحيل معه إضافة أي تشويه مفتعل، وهذا بعكس اتهام أردوغان وحزبه بالمسؤولية عن الإرهاب الذي يضرب تركيا، فهو يريد التبرؤ من دعمه ورعايته للإرهاب الداعشي في سوريا والعراق، وتطهير صفحته من الدماء التي سالت على مدى سني العدوان على سوريا، فكل قطرة دمٍ سالت له كفل منها، أو أطراف عسكرية أو أمنية تركية داخلية، وتتصرف من منطلق رفضها لسياسات أردوغان خارجيًا وداخليًا، لتجعل من الانفلات الأمني مبررًا لعودة العسكر إلى سدة الحكم، ولو سلمنا جدلًا بمسؤولية داعش فهي مسؤولية تركية صرفة، حيث لم يترعرع داعش وينمو إلا في الرحم التركي من نطفة أمريكية.

يقول رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم "إن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تحارب الإرهاب"، وحين يقول يلدريم ذلك فإما أنه يمتلك منسوبًا فائضًا عن الحاجة البشرية للتبجح، أو أنه يظن بأن من يخاطبهم ماتوا منذ عهد الكهف. فتركيا شاركت داعش تجارته ومسروقاته النفطية والأثرية من سوريا والعراق، وشاركت مع باقي التنظيمات الإرهابية سرقة المصانع والمعامل والمخازن، وفتحت حدودها ذهابًا وإيابًا لتدفق الإرهابيين والسلاح والدعم، حين كان يظن أردوغان-وما زال- بأن الإرهاب وسيلته الوحيدة لإعادة أمجاد السلطنة. ولكن سنعتبر أنفسنا من أهل الكهف ونصدق بن علي يلدريم، يقف الجيش التركي ومن استجمع من مرتزقة على أسوار مدينة الباب، والتي هي مقر لـ"داعش" الذي أعلن مسؤوليته عن عملية الملهى الليلي في اسطنبول، ومدينة الباب قياسًا بقدرات ثالث أكبر جيش في حلف الناتو، و"جيش محمد" كما يسميه أردوغان والذي يريد منه إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، من المفترض ألا تعدو كونها تمرينًا صباحيًا لجيش السلطان، ورغم ذلك فهو يطلب دعمًا أمريكيًا ودعم حلف الناتو وحين قوبل بالرفض لجأ إلى روسيا طالبًا العون والدعم، فتفضلت روسيا-عدو الإسلام الإخواني الأردوغاني الوهابي ومسلميه- بقصف مدينة الباب عونًا للإسلام الإخواني الإردوغاني الوهابي ومسلميه.

في ظل هذا الخوار والعجز عن مدينة بحجم الباب، يطالب أردوغان وحزبه بإسقاط "النظام السوري" ورحيل الأسد وخروج حزب الله من سوريا، وما الإنبطاحة التي يمارسها أردوغان تجاه روسيا إلا انبطاحة تكتيكية عابرة يحاول التكسب من ورائها، وهو ينتظر إدارة ترامب حتى يعيد انبطاحه الاستراتيجي، وهو ما عبر عنه يلدريم في ذات الخطاب، حين اعتبر أن إدارة أوباما تحارب الإرهاب بالإرهاب وهو ينتظر إدارة ترامب لتصحيح الميزان، فهو يقصد أن إدارة أوباما حاربت إرهاب داعش بدعم الإرهاب الكردي، رغم أن أردوغان قبل يومين من هذا التصريح اتهم الولايات المتحدة بدعم داعش، وزعم أنه يمتلك الوثائق التي تثبت ذلك، وقد يكون هذا أصدق ما قاله أردوغان منذ حكومته الأولى، فما كان ليجرؤ على تقديم كل هذا الدعم لكل هذه التنظيمات الإرهابية لولا الأوامر الأمريكية، والمتابع لتصريحات المسؤولين الأتراك في فترة ما بعد نجاح ترامب، يلاحظ أنها تهاجم إدارة أوباما، وهذا ما يفعله أيضًا الإعلام التركي المقرب من حزب أردوغان، وهذا ما يضعنا أمام احتمال آخر لأسباب استهداف داعش لتركيا، فداعش صندوق بريد استخباري دولي، وليس تنظيمًا كما يبدو عليه، وإن آخر أسباب العمليات في تركيا هو خدعة محاربة تركيا للإرهاب.

تتعامل كلًا من روسيا وإيران مع تركيا في الملف السوري من باب لعنة الجغرافيا، فهي الدولة التي تملك أطول الحدود مع سوريا، ورغم كل ما ارتكبت تركيا من جرائم إلا أن إيران وروسيا وعلى الأخص إيران، حافظت على رباطة جأشها في العلاقات البينية كما فعلت روسيا بعد الاعتذار التركي، وتعتقد كلًا من روسيا وإيران أن أي استدارة تركية حتى لو كانت آنية ومؤقتة ستصب حتمًا في المصلحة السورية نظرًا لتلك اللعنة الجغرافية، وهي استفادة لا ترتب على الدولة السورية أي التزام من أي نوع سياسي أو قانوني، فالدولة السورية تتعامل مع القوات التركية باعتبارها قوات احتلال، وهذا الموقف بحد ذاته كافٍ لمنع تركيا من استثمار قوتها العسكرية المباشرة عبر الجيش التركي، أو غير المباشرة عبر التنظيمات الإرهابية وتجمعات المرتزقة، وإن أقصى ما يمكن لأردوغان استثماره هو ضمان انسحاب آمن لقواته، وما يتم الآن من محاولات خرق الهدنة وإعلان ما يسمى بـ"الجيش الحر" تعليق مفاوضات أستانة بحجة خرق "النظام" للهدنة، ما هي إلا محاولة تركية لمقايضة استمرار الهدنة بفتح أبواب مدينة الباب للجيش التركي ومرتزقته، فهو يريد ضوءًا أخضر سوريًا إيرانيًا وانخراطًا روسيًا، ولن يحصل في أحسن الأحوال إلا على انسحاب آمن إن التزم باستدارته وصدق.