هل حقا أن إيران وروسيا تبيعان سورية لتركيا؟!

هل حقا أن إيران وروسيا تبيعان سورية لتركيا؟!

تحليل وآراء

الاثنين، ٩ يناير ٢٠١٧

القاهرة – فارس رياض الجيرودي

شاعت في أوساط المؤيدين للدولة السورية خلال السنوات الصعبة الماضية سرديات تلوم كلا من الدولتين الحليفتين (إيران وروسيا) على إصرارهما على المحافظة على حد أدنى من العلاقة الإيجابية مع تركيا، وتراوحت تلك السرديات بين الانتقاد الخجول الذي لا يمل أصحابه التحذير من انخداع روسيا وإيران -مرة أخرى- بوعود المراوغ أردوغان، وبين اتهامات صريحة يوجهها آخرون للحلفاء ببيع سورية والسوريين مقابل العلاقة مع تركيا، وبينما انطلق النوع الأول من المنتقدين من فرضية أن أردوغان ذكي ومراوغ وأن الحلفاء لا تسعفهم رؤيتهم الإستراتيجية في استقراء نيات الرجل، انطلق النوع الثاني من فرضية استمر الإعلام المعادي لسورية في تردادها منذ بداية الحرب الإرهابية الشرسة، ومختصرها أن إصرار الروس والإيرانيين على موقف الدعم للدولة السورية ليس سوى مناورة هدفها رفع السعر الذي سيحصلون عليه لاحقا مقابل بيعها، ويختتم المنتقدون عادة كلامهم بالتساؤل: هل يمكن أن تثقوا بأردوغان بعد كل ما فعل؟
إن أي استقراء بسيط لتفاصيل الحرب الشرسة الدائرة في سورية ولمواقف أطرافها، كاف لإثبات لاوقعية الفرضيات التي ينطلق منها منتقدو الدورين الروسي والإيراني في إدارة الصراع، فمن المخجل أن نتحدث عن الخديعة في حالة دولة عظمى كروسيا تزاحم اليوم الولايات المتحدة على دور شرطي العالم، ويتهمها الرئيس الأميركي المنتهية ولايته بالتدخل بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو في حالة الدولة الأهم في الإقليم اليوم، إيران التي نجحت في تجاوز الحدود التي تفصل دول العالم الثالث عن الدول المتقدمة في مختلف المجالات سياسيا وعسكريا وعلميا (حسب تصنيف تقرير مؤسسة science metrix إيران هي الدولة الأولى في النمو العلمي والتكنولوجي في العالم خلال ثلاثين عاماً 1980-2009)، كما أن أصحاب هذا الطرح يتجاهلون أن تركيا التي يعتبرونها قادرة على خداع روسيا وإيران، يقودها اليوم رجل يتفرد في اتخاذ القرارات ويهمش كما أضحى واضحاً مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الجيش، كما يتجاهلون الحال السيئة التي وصل إليها أردوغان ومشروعه كنتيجة مباشرة لإخفاقاته المتكررة في معركته الأهم في سورية، ويصورونه على أنه الرجل الذكي القادر على الخروج من المآزق دوما، بينما الوقائع تقول بوصول لهيب نار الإرهاب التي تورط في إشعالها في سورية، إلى قلب عاصمته التاريخية اسطنبول، بل أيضاً إلى اختراقات أمنية خطيرة داخل أروقة الأجهزة الأمنية التي تحمي نظامه الذي عجز عن ضمان أمن سفير دولة عظمى تعول عليها تركيا كثيراً من الناحيتين السياسية والاقتصادية لتعويض بعض ما خسرته نتيجة خذلان الحليف الأميركي، كما يقول المسؤولون الأتراك صراحة.
أما متبنو الطرح الثاني ممن يتهمون روسيا وإيران بالمساومة على مستقبل سورية، فهم يقللون ضمنا من قيمة وحجم التأثير في التوازنات الدولية والذي أثبتته لسورية المعركة الدائرة عليها منذ سنوات، فالمواجهة العالمية في سورية والتي تصدرت عناوين نشرات الأخبار العالمية ست سنوات ماضية، والتي حبس العالم أنفاسه خشية اندلاع حرب عالمية بسببها أكثر من مرة، والتي ضحت إيران وروسيا في سبيلها بمئات مليارات الدولارات نتيجة حرب أسعار النفط الشرسة التي شنتها السعودية عليهما، هي ليست صراعا على بلد يتمتع ولا حتى بـ10% من ثروات العراق وليبيا اللتين لم ينتج عن الحرب عليهما ولو جزءاً صغيراً مما سببته الحرب السورية من توتر دولي قسم العالم شرقا وغربا، وإنما هو في الواقع صراع عالمي على الدور السياسي الذي قامت بتأديته الدولة السورية خلال العقود الماضية، في مواجهة مشاريع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، تلك المشاريع التي كانت تهدف إلى تمرير قرن جديد من السيطرة الأميركية على العالم انطلاقا من الشرق الأوسط (كما أقرت بذلك الدراسات المنشورة لمراكز الـthink tanks الأميركية).
لقد أسهمت سورية إلى جانب حلفائها في محور المقاومة في عرقلة تلك المشاريع وإفشالها، فسورية هي النافذة الإلزامية التي تطل منها إيران على الصراع مع إسرائيل، وعلى قضية القدس التي تعتبر أحد أسس الإجماع الوطني الإيراني والتي يهدد التخلي عنها بتقويض شرعية النظام الإيراني الحاكم نفسه، وهي من جهة أخرى الرافعة التي أعاد صمود جيشها ودولتها روسيا إلى الواجهة العالمية كدولة عظمى.
لقد انهالت العروض المالية والسياسية السخية على كل من روسيا وإيران للتخلي عن الدولة السورية خلال السنوات الماضية، فإضافة لعروض شراء الأسلحة التي تقدم بها أمراء الخليج، عرض على روسيا تأسيس قاعدة عسكرية في قبرص كبديل من القاعدة البحرية في طرطوس، لكن طبيعة الصراع في سورية تفرض من الناحية العملية على كل من إيران وروسيا عدم القبول بأقل من سورية موحدة متماسكة قوية، لأن ذلك وحده هو ما يضمن التوازن في منطقة سقطت كل دولها تحت النفوذ الأميركي منذ فترة طويلة، لذلك وبدلا من التراجع تدرجت الدولتان من مرحلة تقديم الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري غير المباشر إلى مرحلة المشاركة الفعلية إلى جانب الجيش العربي السوري، وتقديم الضحايا من أفراد مواطنيهما في مواجهة جيوش الإرهاب التي جندتها الولايات المتحدة بواسطة أذرعها في المنطقة.
ما سبق لا يعني أنه ليس للدولتين الحليفتين حساباتهما الخاصة، وهي حسابات لا تتناقض بالضرورة مع المصلحة الإستراتيجية السورية كما يفترض المشككون، فإيران انطلاقا من ايديولوجيتها الإسلامية ومن وضعها الإقليمي، ترى من الصواب أن تعمل من أجل وحدة دول الإقليم وتكاملها بدل الانسياق إلى الغرق في الصراع المدمر بينها، لذلك هي تضع حدودا فاصلة بين اعتراضها على سياسات أردوغان، وبين موقفها من تركيا الدولة والشعب والتي ليس لأحد سوى واشنطن مصلحة في أن تخوض إيران معها حرب وجود كالتي خاضتها سابقا مع عراق صدام.
أما روسيا فمن جهتها تسعى لتوطيد نفسها كمرجعية أولى في المنطقة، وهي تعلم أنها من أجل ذلك يجب أن تتمتع بحد أدنى من العلاقة ليس مع حلفائها فقط، بل حتى مع خصومها، تماما كما كانت الولايات المتحدة خلال تفردها بإدارة شؤون المنطقة خلال عقد التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، المرجعية العليا التي تتمتع بعلاقات الحد الأدنى مع سورية من دون أن يضر ذلك بحلفها الوثيق مع إسرائيل، لتأتي بعد ذلك حروب جورج بوش المباشرة تحت شعارات نشر الديمقراطية، ومن ثم حروب أوباما غير المباشرة باسم الربيع العربي لتطيح بدور الولايات المتحدة المرجعي.
ما سبق يجعل كلا من روسيا وإيران تبحثان عن هزيمة تدريجية بالنقاط لتركيا في سورية، وعن تسوية تكفل خروجا مع حفظ ماء الوجه، وذلك بعد إقناع الأتراك بالواقع الملموس، بعدم جدوى الرهان على ما أغوتهم به الولايات المتحدة، وبعدم جدوى المناورات وشراء الوقت، فنحن هنا لا نتحدث عن ثقة بوعود أردوغان كما يردد المشككون، بل عن وقائع تفرض نفسها على الأرض، أهمها تحرير حلب، وثانيها تشجيع الإيرانيين لحلفائهم في العراق على مزيد من التنسيق العسكري والسياسي مع الدولة السورية في مواجهة العبث التركي، وثالثها عجز الجيش التركي عن انتزاع بلدة صغيرة تقع قرب الحدود التركية، لقد توقف الجيش التركي عاجزا لأشهر عند باب سورية من دون أن يتمكن من الدخول، وفقد عشرات الجنود من نخبة القوات الخاصة التركية، مع ست دبابات من النوعية الأحدث في أسطوله البري (الدبابة الألمانية الليوبارد) وذلك بين تدمير وأسر وهو ما يجب ألا نعتبره تفصيلا غير ذي أهمية، وفوق ذلك أظهر تنظيم «داعش» وأخواته من التنظيمات المتطرفة اختراقا للأجهزة الأمنية التركية التي يقف معظم منتسبيها على أرضية التطرف الديني نفسها التي يقف عليها التنظيم الإرهابي، فوجهت «داعش» ضربات مؤلمة في اسطنبول وأزمير للسياحة التركية التي تشكل أساس ما يسمى المعجزة الاقتصادية التركية، وهي آخر ما تبقي لأدروغان ليباهي به بعد أن أغرق بلاده بالتوترات العرقية والطائفية، وبعد أن تم قبر مشروعه الإمبراطوري العثماني في حلب.
لذلك لا يبدو التراجع والانصياع لحل سورية الدولة الموحدة القوية، خيارا لأردوغان أو لأي رجل يحل مستقبلا في منصبه، بل يبدو المخرج الوحيد المتاح والذي ستصل تركيا لولوجه في النهاية مهما طال زمن المناورة والمراوغة.

الوطن