صمت دمشق رغم دستور موسكو.. بقلم: إيهاب زكي

صمت دمشق رغم دستور موسكو.. بقلم: إيهاب زكي

تحليل وآراء

الأحد، ٢٩ يناير ٢٠١٧

بيروت برس -
ليس من السهل ممارسة الصمت وسط حالة مزمنة من الضجيج، والأصعب أن تلوذ به وأنت تتعرض لاتهامات مزرية، ولكن موضوعيًا لا توجد عاصمة تجيده مثل دمشق، أما تحيزًا فلا أحد يجيده إلا دمشق، والعواصم حين تمارس الصمت يعني بالضرورة أنها تنقل خصومها إلى مربعٍ آخر قد تختاره هي أو تتوقعه، وأما إذا كان الصمت تجاه الحلفاء فهي قضية أخرى، فقد يكون اتفاقًا مسبقًا أو مناورة مشتركة أو منصة لاتفاقٍ لاحق أو غيرها من الاحتمالات، التي لا علاقة لها باستراتيجيات الحلف وخطوطه الحمراء. كما أنّ الصمت درجات، فقد يكون مطبِقًا وهو الأشد وقعًا، وقد يكون صمت الفعل دون صمت اللسان، وأما على المستوى الشخصي فنحن الذين لا نمثل إلا أنفسنا لا يُلزمنا صمت العواصم أو حديثها، وهذا ينبع من ميزة التخفف من أعباء المسؤولية عن دولةٍ وأمة، كما أننا نمتلك رفاهية التبرؤ من نتائج أي قرار بعكس صاحبه، والحقيقة أنه فيما يتم تداوله عن دستور روسي لسوريا، حاولت التماهي مع صمت دمشق لأنه الأصوب في كل الاتجاهات.

ولكن ما تسببت به هذه المسودة من ضغط على المستويين الشعبي والإعلامي، دفعني لاستغلال ميزتي التخفف والتبرؤ، وهذا من فِعال النفس الأمَّارة بالسوء، فصمت دمشق أقوى وأبهى من أي حديث، ولكن أنّى لنا بقدرتها على الاحتمال. وقبل التطرق لتلك المسودة، أودّ ضرب عدة أمثلة عن صمت دمشق، حتى تكون المقاربة أكثر جلاءً، والأمثلة لا تحتاج للإيغال في التاريخ لجلبها، بل من مقربة شديدة.
أولًا: صمتت دمشق حين قال وزير الخارجية الروسي بأنه لولا تدخل بلاده لسقطت دمشق في أسبوعين بيد الإرهاب، حينها تحدث الجميع وصرخ الجميع إلا دمشق، وسال الحبر أنهارًا عن الصراع الروسي الإيراني، كما انطلقت الألسنة بالتساؤل عن وجود الجيش السوري وحلفائه على الأرض، وبغض النظر عن دور تلك التصريحات في شرعنة التدخل الروسي على المستويين القانوني والأخلاقي في نظر المجتمع الدولي، هل تلمس أحدنا أي تأثيرٍ لها على حلف دمشق موسكو، والسؤال ماذا لو تحدثت دمشق، وبدأ السجال بين العاصمتين.

ثانيًا: زلَّ لسان ترامب في مقابلة تلفزيونية عن خطةٍ لإقامة مناطق آمنة في سوريا، فسارعت عدة عواصم بالحديث بينما التزمت دمشق الصمت، فموسكو سارعت بالتحذير من العواقب، ورحبت كلًا من الدوحة وأنقرة، حتى البنتاغون لم يلتزم الصمت، حين نفى تسلمه أي وثيقةٍ أو طلبٍ من الرئيس الأمريكي للعمل على ذلك، ورد البنتاغون هذا يعطي الدرجة الكاملة لصمت دمشق، بعكس تسرع تلك العواصم بالترحيب أو التحذير، لأن كلام ترامب بحد ذاته مجرد نشوة انبهار التواجد في البيت الأبيض، ولنفترض عبثًا أنه كلامٌ جدي، فهو يحتاج مئة يومٍ على الأقل ليصبح الحديث عنه مناسبًا.

ثالثًا: على المستوى النفسي ما هو الأشد إيلامًا، القصف "الإسرائيلي" لمواقع سورية، أم العرض الروسي للدستور، وعلى المستويين السياسي والقانوني ما هو الأكثر تعديًا على السيادة السورية، وأظن أن السؤال يجيب نفسه ولا حاجة لإجاباتٍ إضافية، ولكن دمشق تكتفي في الحالة الأولى بردٍ يشبه الصمت، عن الاحتفاظ بالحق في الرد، وهو الحق الذي ستنتزعه يومًا، وهذا المثال تحديدًا ليس لتبرير الصمت بالصمت، وهو سيءٌ شكلًا ومضمونًا لأنه يقارن بين عدوٍ وحليف، ويقارن عدوانًا صريحًا بالنار بما يشبه مناورة مشتركة وفي أسوأ الأحوال سقطة أو سوء تقدير-رغم استبعادي للثانية-، ولكنه محاولة للتيقن من أن الصمت حرفة دمشق، التي تذيب مفعول كل كلامٍ أوفعلٍ مهما كانا فولاذيّين.

ابتداءً، إنّ مناقشة مواد ما سمي بمسودة الدستور، هو السلوك الخاطئ ويشكل قمة الانخراط في لعبة كسر المسلمات، واعتبارها سلعة قابلة للمساومة في عالم تسليع كل شيء، بل الأصل هو مناقشة المبدأ بحد ذاته، هل يحق لدولةٍ ما فرض دستورٍ على دولةٍ ثانية بعيدًا عن أي اعتبارٍ أو واقع تحالفي، الإجابة قطعًا لا. وتخصيصًا، هل يحق لموسكو طرح مبادرة لدستور سوري، الإجابة قطعًا نعم، وهي ليست "نعم حصرية بموسكو، بل تشمل الجميع أصدقاءً وأعداء مع اختلاف طبيعة الحق وأخلاقيته وقانونيته، ولكن الفرق بين طرح الأصدقاء والأعداء، هو أن الأصدقاء مسموحٌ لهم كما أبدى الرئيس الأسد ذلك في أكثر من مرة من باب المناصحة، والنصيحة كما المشورة دائمًا وأبدًا ليست ذات طبيعة إلزامية، أما الأعداء كما حالهم منذ ست سنوات يحاولون فرض دستور على سوريا، والتصريحات الروسية مؤخرًا كلها تصب في صالح كون هذه المسودة مجرد طرحٍ لا تلزم أحدًا، وبغض النظر عن هذه التصريحات التي قد يحاجج البعض بأنها دبلوماسية لذر الرماد في العيون، لماذا أقدمت موسكو على هذه الخطوة.
الحقيقة حتى هذه اللحظة لا أملك معلومة أو استنتاجًا بأن هذا الطرح هو طرح منفرد لموسكو أو طرح متفق عليه مسبقًا مع دمشق، أو مع دمشق وحلفاء آخرين، لذلك فإنّ ما سأقوله في هذه الخاتمة هو مجرد أفكار الكاتب والتي قد تمت أو لا تمت للواقع أو الحقائق بشيء، والمبنية على أسوأ الاحتمالات كونها مبادرة روسية منفردة. فقد قال رئيس الوفد السوري إلى أستانة بشار الجعفري، أن من يفكر بالفدراليات عليه أخذ مسكنات شديدة، وهذا من شأنه أن يطمئن أردوغان في الموضوع الكردي، وبالتالي سحب ورقة ضغط روسية مهمة على تركيا، حيث يعتبر أردوغان أن الدعم الأمريكي للأكراد لا يمكن مواجهته إلا بحلفٍ مع روسيا. ومن جانبٍ آخر، رفض ممثلو الحكومة السورية أي تواصلٍ مع الأتراك رغم المحاولات الروسية لتحقيق ذلك، وهوما تم تفسيره تركيًا أن الأضواء الروسية الخضراء عاجزة عن منح شرعيات الاحتلال، وهو أيضًا يقوض ما أُشيع عن صفقات في حلب، وفحواها حلب مقابل الباب، وهذا يضعنا أمام استنتاج أنّ هذه المسودة في أسوأ احتمالاتها وآثارها هي رسالة روسية لتركيا بأنها لا زالت تمتلك الورقة الكردية وقادرة على التلويح بها، كما أنها لازالت قادرة على لعب دور الوسيط المتمكن، الذي بإمكانه طرح كل شيء على حليفه فوق الطالة وتحتها مهما كان نافرًا ومرفوضًا، مما يغلق الأبواب أمام تركيا لاختلاق مبررات العرقلة، كصعوبة قبول أتباعها من "الجماعات الإرهابية" مناقشة هذه النقطة أو تلك. وقد تكون أولى نتائج هذا الطرح السيء وصمت دمشق المكمل، هو تصنيف تركيا لجبهة النصرة على قوائم الإرهاب، وهذا الاقتتال الدموي بينها وبين بقية الفصائل، لأنها تريد شمالًا أتباعًا لتركيا حصرًا تستطيع التعهد بأي شيء بشأنهم دون التأثر بأي أطرافٍ إقليمية أخرى، والخلاصة أن صمت دمشق أمام هذه المسودة، سيجعلها تقطف العسل دون التعرض للسع النحل أو بأقل حدٍ منه، فحروب المصير ليست نزهة.