بين «الأداء الحكومي» والانتصار على الأرض: ماذا يحدث؟

بين «الأداء الحكومي» والانتصار على الأرض: ماذا يحدث؟

تحليل وآراء

السبت، ١١ فبراير ٢٠١٧

فراس عزيز ديب

لا يمكن لكَ وأنت تجلس وتتابع تداخلَ الأحداث السياسية في هذا العالم المجنون أن تتجاهلَ صوراً تنسابُ بألمِها بينَ حروفِ كلماتك، تحاولُ أن تخبئها في سجنِ الذاكرة عساها تكون يوماً شاهداً على الألم. عبثاً تحاول، وكأن هذهِ الصور تتكلم وتطلب منكَ فعلاً ألا تجعلها مجردَ صفحةٍ في دفترِ الزمن، لا يمكن لك إلا أن تصغي لأنينِ عجوزٍ أو طالبٍ أعياهما انتظار حافلةٍ لم تأتِ، ستتجرد من إنسانيتك عندما تتجاهل صيحات ألم يُطلقها طفلٌ التقطته الكاميرات وهو يحملُ أضعافَ طاقتهِ من عبواتِ الماء.

في الوقت ذاته، لا يمكن لك إلا أن تنتشي بصورةٍ لأحدِ شجعانَ هذا العصر وهو يحملُ روحه على كفه ليلقي بها في مهاوي الردى، وهو إن كان مدركاً أنه يفعل ما يفعل ليحيا من يدافع عنهم، لكنه في الوقت ذاته يجعلنا نطرح تساؤلاً منطقياً:
شتان بين الإنجازات على الأرض، والإخفاقات بما يتعلق باحتياجات المواطن، ففي الوقت الذي طرقَ فيه الجيش العربي السوري مثلاً «الباب»، ليردمَ حلم «أردوغان» إلى غيرِ رجعة، فإن «أبواباً» للألمِ والمعاناة التي يعيشها المواطن تُفتح ولسنا قادرين على إغلاقها ولو جزئياً، فماذا يجري؟
في كثيرٍ من الأحداثِ المرتبطة بسيرِ المعارك على الأرض، وما تضمنته من «فشلٍ» أو «إنجاز»، كان المواطن السوري وانطلاقاً من حسِّه الوطني المرتفع يتفهم فكرة «التعتيم» على الأحداث، هكذا «تعتيم» متبع عملياً في أي دولةٍ تعيشُ حرباً ما. لكن هذا الأمر لا علاقة له بالسياسة الإعلامية الفاشلة السارية، هذا أمر مختلف، وهي مقاربة يجب أن تكون واضحة للجميع:
إذ نسوّغ للقيادة التعتيم على بعض مجريات الأحداث كعملية تبادل المخطوفين التي لم يعرف بها المواطن إلا قبل ساعاتٍ من حدوثها، لكن هذا لا يعني أن نعطي صك براءةٍ للإعلام الرسمي والقائمين عليه حول ترهلِ عملهم وخطابهم في مواضيع ثانية. إن «التعتيم» على مجرياتِ الأحداث لا يمكن له أبداً أن ينسحب على ما يتعلق بالأداء الخدمي الذي هو أحد أهم مهام الحكومة. هنا لا ينجح «التعتيم»، بل ما ينجح هو «مصارحة» المواطن بكل شيء وليس إعطاؤه إبراً تخديرية. هل تتخيلونَ مثلاً أن شعباً كالشعب السوري الذي صمدَ هذا الصمود الأسطوري بحاجةٍ لمحللٍ سياسي يُسمعهُ ليلَ نهارٍ على الشاشات أن «العدو تحول لضرب الاقتصاد بعد إخفاقه عسكرياً»، كم هو غبي هذا «العدو الغاشم» الذي لم يبدأ حربه الاقتصادية إلا منذ شهرين فقط!! هل تظنون أن مواطناً سورياً قدَّم ولدين أو ثلاثة قرابين تعمد الوطن بدمهم الطاهر بحاجةٍ لبعض «منظري الشاشات» ليعلموه «الصمود» لأننا في «الربع ساعة الأخير»؟ هذه الذرائع باتت إلى حدٍّ بعيد تشبه الذرائع التي يطلقها السائق الفاشل بأن سبب الحادث هو الميول غير النظامي للمنعطف، بل إن تكرار عبارات كهذه في زمن «السوشيال ميديا»، هو سبب ليضعنا أمام منعطفات أكثر خطورة فكيف ذلك؟
مبدئياً علينا أن نوضح نقطة مهمة، أن النقد أياً كان له حدود وضوابط أخلاقية، كذلك التسويغ له حدود في مدى احترام الآخر، لا يمكن لي وأنا أسوّغ خطأ ما أن أنتقص خلال تسويغي من مدى فهم واستيعاب الآخر. هذا الأمر ليس بحاجةٍ فقط لتفعيل «ثقافة النقد» والابتعاد عن «تمسيح الجوخ الببغائية»، لكنه بحاجةٍ كذلك الأمر لتفعيل «ثقافة قبول النقد»، وهذا الكلام ننطلق فيه من كلام الرئيس الأسد لـ«الوطن» تحديداً، وبمعنى آخر:
عندما نوجه انتقاداً لمسؤولٍ فإننا نستهدف هذا الشخص بما يمثل من مسؤولية وعندما يغادر موقعه لن يكون لدينا سبب للحديث عن «شخصه» فلدينا ما هو أهم. النقطة الثانية أن انتقاد الأداء العملي لأي مسؤول لا يعني أبداً أن هذا الشخص سيئ، تحديداً عندما نأتي بشخصٍ لا تتطابق إمكانياته العلمية أو «الخبراتية» – وهي الأهم بالمناسبة – مع المهام الموكلة إليه، وهذا الأمر للأسف ضاربٌ أطنابهُ في الإدارات السورية.
من وجهة نظرٍ عملية، وهو ما يهمنا، فإن حكومة المهندس «عماد خميس» ومنذ بدء عملها حققت مفارقة لم تتحقق ربما في أي وزارةٍ سابقة، بأن الجهد المبذول يبدو واضحاً وهذا يبدو جلياً في إرادة رئيس الحكومة تحديداً وبعض الوزارات فقط، لأن بعضها الآخر عبارة عن وازارتٍ نائمة، وبعضها الآخر عالة في زمن الحرب، لكن كل هذه الحركة للأسف بلا بركة ولم تأتِ بنتيجة، بل إن الوضع العام تدهورَ أكثر من ناحيةِ الخدمات أو من الناحية الاقتصادية. هذه المفارقة لا يجب أن نمر عليها مرور الكرام، بل يجب التعاطي معها بموضوعيةٍ بعيداً عن العواطف لأنها ربما الأساس الذي يفسر كل شيء وبمعنى آخر:
منذ بداية الحرب على سورية، ومع تعاقب التشكيلات الحكومية كان هناك من يستخدم لتبرير الفشل الحكومي ذرائع مختلفة يعلم القاصي والداني أنها ليست بوجه حق، حتى جاءت حكومة «خميس» وعندما بدأت فعلياً تعاني مما كان يتذرع به من سبقهم من دون وجه حق، بدت التبريرات فارغة من مضمونها ومكانتها بل باتت للمواطن السوري مادة للتهكم. للأسف نقول إن هذا الأمر لا يبدو خطأ المواطن، ولا يبدو في الوقت ذاته خطأ الكثير من الوزارات، الخطأ بالأساس هو بالتعمية على الحقائق سابقاً، فوصلنا لمرحلةٍ فيها من ورث «تركة كبيرة» من الأخطاء التي لم تعد تنفع معها الحلول الإسعافية، وفي الوقت ذاته لا ينفع معها الجلوس متفرجين بانتظار الفرج، فما العمل؟
منذ البداية كانت هموم المواطن عبارة عن ارتفاعِ سعر صرف الدولار ما انعكس سلباً على ارتفاع الأسعار، أو أزمته في المحروقات تحديداً مازوت التدفئة الذي لا يراه إلا أصحاب النفوذ. لكن هذا الأمر لم يقده لهذه المراحل من توقف نبض الحياة في البلد، لدرجة أن طلاباً فقدوا فرصة دخول الامتحانات بسبب عدم وجود وسائل نقل، ذلك هناك من يخرج ليبرِّر الأمر بأن الأزمة كانت مفاجِئة، ويبدو أنها لم تكن مفاجئة إلا للمواطن البسيط الذي لا يعلم ما يجري ولا يبدو أنه سيعلم في ظل الإصرار على سياسة الاستخفاف به عند محاولة تبرير الكوارث، والقضية واضحة:
هناك أزمة مازوت مثلاً، لكن إن بحثت عنه في السوق السوداء ستجده بأضعاف سعره، هذا الأمر ينطبق على الكثير من المواد الأساسية، هذا دون الحديث عن البضائع التركية التي تسرح وتمرح من دون حسيبٍ أو رقيب، وعندما يتم طرح تساؤلات كهذه يكون الجواب مكرراً بأنه الفساد، ليبدو مصطلح الفساد هو الشماعة التي نعلق عليها كل إخفاقاتنا، بل يدفعنا للذهاب بعيداً وفق معطيات كهذه أن ما يعاني منه المواطن السوري ليس «مشكلة فساد» وإنما «ثقافة فساد»، وهي أخطر بكثير. كذلك الأمر لا يمكن لنا حصر المسؤولية بمسؤول هنا وآخر هناك، عندما تعم «ثقافة الفساد» فإن الجميع يتحمل المسؤولية، لأنها ببساطة ستجعلنا نقول إن ما وصلنا إليه لا يمكن حله بتعديلٍ حكومي هنا أو فتح ملفات فسادٍ هناك، لأن أكبر نكتة يتحدثون عنها هي «محاربة الفساد»، فالتجربة العملية أثبتت أن محاربة الفساد في سورية هي بابٌ جديد للفساد، وهكذا حتى يصبح الأمر أشبهَ بقلعةٍ من الفساد أبوابها مفتوحة على بعض، فهل من مغامرٍ سيتمكن من اقتحامها؟ حكماً لا؛ الحل بهدمها على رؤوس من فيها، هذا الكلام ليس من باب صناعة اليأس على العكس، لننظر مثلاً لما نشر في الأسبوع الماضي عن قيامِ مفتشٍ باستردادِ مبلغ «600 ليرة» لمصلحة إحدى الجهات العامة كلفتها «60000 ليرة» أجور مواصلات، هذا مثال حي، هو بالمناسبة ليس مثالاً عن حادثٍ عابر هو مثال عن نهجٍ آن لنا أن نقول له توقف، هذا من دون الخوض في الحديث عن «ضغط النفقات» وسيارات المسؤولين التي تُستخدم لكل ما هو شخصي وعائلي، الأمر ليس بحاجةٍ لأكثر من إرادةٍ للتغيير في أسلوب العمل وآلية التعيين والترشيح، لأن «نظامنا الإداري» بمؤسساته و«مركزيته الديكتاتورية» أشبه بضاحيةٍ استولى عليها الإرهابيون رغم مقاومة الشرفاء فيها، وبعد تحريرها باتت شبهَ مهدمةٍ لدرجة أن من كانوا أحد إفرازات الحرب يصولون ويجولون فيها كما يشاؤون، لا أملَ بإعادة ترميمها ستبقى هذه الإفرازات متجددة، الحل بهدم الضاحية وإعادة بنائها وإلا سنكون كمن يأتي بخليةٍ سرطانية ليزرعها في جسدٍ سليم ظناً منه أنه بذلك يعطي المناعة. الوحيد الذي يعطيكم المناعة هو صبر هذا الشعب وصموده، وإرادة بعض المسؤولين الذين نحترمهم ماعدا ذلك فإننا رسمياً دخلنا بمرحلة تضييع الوقت، وحدهم الشرفاء فيها من يدفعون الثمن..
الوطن