أوروبا.. حشائشٌ تحت أقدام الفيلة. بقلم: ميشيل كلاغاصي

أوروبا.. حشائشٌ تحت أقدام الفيلة. بقلم: ميشيل كلاغاصي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٣١ مايو ٢٠١٧

لطالما كانت فرنسا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا وروما دولًا استعمارية و"عظمى" في الشرّ والإجرام.. فالأوروبيون يتغنون بالحضارة، ويخفون وجههم القبيح، فقد احتلوا نصف العالم، وسرقوا كنوزه وماله وأرضه وشعوبه، أنجبوا الأغبياء بعد العباقرة، وخاضوا الحروب العالمية وفق الأجندة الصهيونية، فخرجوا مهزومين، أقنعهم نفوذٌ "أممي" نالوه ولم يستحقوه، وبالإتحاد حاولوا رص الصفوف وفق نفس الأجندة، لكنهم وجدوا أنفسهم على باب سيدهم الأمريكي الجديد، الذي أكل العنب وتركهم يضرسون.

هكذا خُدعت أوروبا، وأرهقت نفسها وشعوبها بغباء قادتها ووصلت أن تكون تابعًا وأداةً أولا تكون. "نجحت" أوروبا وغدت الأداة الطيعة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وراحت تنزف من رصيدها ومصالحها وسلامها وأمن شعوبها وهيبتها وحتى كرامتها، وتاهت كالحشائش تحت أقدام الفيلة، ولقبوها بالـ"عجوز" التي لا تثير حتى غرائز الرجال. لم تتلقف أغلب الدول الأوروبية رسائل التحذير من شعوبها وشعوب الدول المظلومة، فاستعاضت عن العقل والدبلوماسية بالإنخراط في المشاريع والمخططات المجنونة بالقوة العسكرية والسلاح والتسليح وإراقة الدماء لتمرير مشاريع الهيمنة والتقسيم وقتل الشعوب، فاحتضنت كافة القوى الإرهابية المجرمة وأعتاها تطرفًا، وراحت تمدّها بكافة أشكال الدعم المالي والعسكري وتؤمن لها الغطاء السياسي لتنفيذ جرائمها تحت مسمى "الربيع العربي" الأمريكي النكهة - اسرائيلي البصمة، ما أفقدها إرادتها و إرادة شعوبها.

عاشوا أوهام الزمن الواحد والقطب الواحد، بعد أن تربعت أمريكا على العرش كقوةٍ عظمى ووحيدة، وأناطت بهم، وبالأمم المتحدة مهمة خدمة مشروعها وسياساتها ومصالحها، ومنحها الموافقة على القيام بعملٍ عسكري ضد أي دولةٍ بما فيها أعضاء تلك المنظمة العالمية، وبانقياد العالم وراء سياستها الخارجية لتقوم بخلق الإستقرار الدولي الجديد بقوة السلاح، انطلاقًا من اعتماد اقتصادها وحلفائها على النفط، وضرورة إمداد حلفائها الصناعيين به مقابل دعمهم لها ماليًا لتوسيع جهازها العسكري دون المس بمكانتها المالية والإقتصادية.

ولكن.. ما حدث فعليًا في هذه الشراكة "المتوحشة"، هو أنّ الدول الأوروبية "العظمى"، قدمت ولسنوات ما التزمت به من شرّ، وساعدت واشنطن وأيدتها في نشر الفوضى حول العالم وفي استعمال القوة العسكرية المفرطة وبقتل المدنيين والعسكريين، وتدمير البنى التحتية والإجتماعية والإقتصادية بالقوة العسكرية في عديد من الدول العربية (لبنان حرب تموز 2006، وفي سورية والعراق وليبيا واليمن) لوضعها لاحقًا تحت رحمة ووصاية البنك الدولي عبر مؤتمرات الدول المانحة وإعادة الإعمار.

بعدما تفردت أمريكا بحكم العالم، لم تعد تقنعها قواعد "سايكس – بيكو" للشراكة والمحاصصة، وفاجأت الجميع وأدخلت العالم دوامة عصرها الجديد، وجرته لحروبٍ ساهمت بانقسام العالم وإضعاف حلفائها قبل أعدائها.. وبدا واضحًا أنّ سايكس–بيكو- الأمريكي الجديد، يستهدف هزّ استقرار راسميه ومبدعيه الأوروبيين أيضًا، فجعل بريطانيا تهرب إلى الأمام بخروجها من الإتحاد الأوروبي، وترك الفرنسيين يتألمون بصمت ويجترون مرارة خوفهم من جولات الإرهاب الجديدة، في حين واصل الألمان بحثهم عن موطئ قدمٍ بين العداء والصداقة مع روسيا.

هل هي الصحوة أم الخوف، التي تجعل ألمانيا – ميركل تفقد محبتها للاجئين السوريين، ويندم أردوغان على استعداء أوروبا، وهل من الصدف أن تتفرغ وسائل الإعلام الأوروبية للصراخ والحديث عن الخطر الإرهابي المنظم لعودة الإرهابيين إلى أوروبا، وتساهم بكشف وفضح الطروحات الإيدولوجية الإرهابية التي استهدفتهم في قلب عواصمهم ومدنهم..؟

بات من الواضح أنّ أوروبا قد خُدعت وخسرت مرتين. لقد ساهم صمود سورية وحلفائها، في تغير شكل العالم وموازين القوى فيه، وخياراته ووجوه لاعبيه، وأصبح البحث عن التوازن الجديد عنوانًا ومطلبًا، فقد أسفر العبث بأمن واستقرار العالم انطلاقًا من دمشق، إلى نتيجة لم يكن ليتوقعها العابثون، إذ أعلن العالم انتهاء زمن القطب الواحد، وأكد ولادة نظامٍ عالمي جديد متعدد الأقطاب، غابت فيه شموس دولٍ لطالما وقفت على المسرح الدولي، وصعود وبروز أقطاب عالمية جديدة كروسيا والصين والهند وباكستان...إلخ.

فقد جاء الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب كالعاصفة في وجه حلفائه قبل خصومه وأعدائه، وأطلق من الوعود، ما أثار حفيظة ومخاوف شركائه الأوروبيين، ورفع شعار أمريكا أولًا في الخارج قبل الداخل، انتظروا شهور عدة، عساه يقدم من التوضيحات ما يريحهم، لكنه لم يكترث بأسئلتهم وهواجسهم، وراح يبتلع الغنائم والهدايا والعقود والصفقات، فيما هم يتفرجون. قرع سلوكه جرس الإنذار في رأس الدولة الألمانية كزعيمٍ أكبر للدول الأوروبية الغربية وأقواهم إقتصاديًا، ولم يكتف بتحييدهم عن مصالحهم، بل ذهب ليطالبهم بدفع الجزية والديون الأطلسية أسوةً بعرب الخليج، وإلى احتقارهم ومخاطبتهم عبر تغرديات التويتر، بعد فشل الإجتماع الأخير لدول الـG7 في إيطاليا وخروجه بنتائج سلبية، ما دفع ميركل لحشد الأوروبيين خلفها والادّعاء بأنّ "ألمانيا ستكون بخير ما دامت أوروبا بخير"، وللقول أن "فترة الثقة الكاملة بالبلدان الأخرى قد مضت"، وأنه "ينبغي على الأوروبيين أن يتحكموا في مصيرهم بأنفسهم".
لكن ترامب تجاهل وجودها في لقطة الصورة الختامية في إيطاليا، دون أن ننسى رفضه مصافحتها أثناء استقباله لها في البيت الأبيض في آذار الماضي. لقد بدت نواياه واضحة في “تخريب” علاقات واشنطن مع دول الاتحاد الأوروبي، على الرغم من معرفته أن مواقفه الأخيرة ستجعل الأوروبيين يتحركون أكثر فأكثر نحو روسيا.

يبدو أن ترامب يغامر بعقلية التاجر ورجل الصفقات، ويسعى لاختبار وابتزاز وفرز شركائه ومدى ولائهم لواشنطن في الصراع مع روسيا والصين و"الخطر الإيراني" في عديد الملفات والقضايا، كالعقوبات على روسيا، والأزمة الأوكرانية ونشر الدرع الصاروخية والعقوبات الغربية على روسيا وتوسيع حلف الناتو شرقًا، ومسألة التعاون والتقارب مع إيران، إذ يدرك الرئيس ترامب خطورة الإنقسام داخل دول حلف الناتو حول ما يدعونه بـ"التهديدات الروسية المحتملة"، الأمر الذي يدفعه عبر بث الخلافات لإخضاع بعض الدول الأطلسية للتخلي عن ودها لروسيا، دون الإكتراث لمصالح دولهم، ما دفع المستشارة ميركل للتأكيد على أهمية التماسك الأوروبي في ظل الركود والأزمات الإقتصادية والخلافات العميقة مع واشنطن، حتى لو أتى ذلك على مصلحة صمود اليورو، إذ تبقى ألمانيا المستفيد الأكبر باعتبارها أكبر الإقتصادات الأوروبية، فيما يتأثر معدل ربحية رؤوس الأموال الأمريكية في الأسواق الأوروبية، الأمر الذي يسعى ترامب لإيقافه تمامًا أو بسحب رؤوس الأموال وإعادة تموضعها في الولايات المتحدة.

من الواضح أن العودة الأوروبية باتت أمرًا صعبًا، يبدو معه تعويل ألمانيا على وصول ماكرون إلى سدة حكم فرنسا، أمرًا يجنح نحو الأوهام والأحلام، فقد وصل ماكرون إلى السلطة كرئيس وليس كقائدٍ قادرٍ على تغيير قواعد اللعبة الأممية في العصر الحديث، وقد يسهم الإجتماع القادم لدول الناتو في بلورة الحجم الجديد للدولة الألمانية ومن يلف لفها، وقد يفعلها ترامب ويطيح بالحلف الأطلسي الحالي كما وعد، ويرسم قواعد الحلف الجديدة بوجود أو بغياب ميركل وفي إطار روح "الصداقة" التي تحدثت عنها.