الانتخابات الألمانية والسؤال الصعب. بقلم: د.منار الشوربجي

الانتخابات الألمانية والسؤال الصعب. بقلم: د.منار الشوربجي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٦ أغسطس ٢٠١٧

مجريات الانتخابات الألمانية، المزمع إجراؤها الشهر المقبل، تمثل أحد المؤشرات القوية على حجم التأثير الواسع الذي أحدثه استفتاء البريكسيت في بريطانيا وفوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة خارج حدود بلديهما، دون أن تمثل بالضرورة إيذاناً بانحسار الشعبوية في العالم.

فما لم تحدث مفاجآت كبرى، أو انحسار واسع في حجم التصويت، فإن المستشارة أنجيلا ميركل ستفوز، على الأرجح، بمنصبها من جديد في انتخابات الشهر المقبل.

ففوز التيار الشعبوي البريطاني في استفتاء البريكسيت ثم فوز الشعبوية اليمينية في أميركا بمنصب الرئاسة كان له تأثيره، على ما يبدو، على الناخب الألماني. فرغم أن ميركل هي زعيمة حزب الديمقراطيين المسيحيين، صاحب المواقف المحافظة تقليدياً، بما في ذلك موقفه المتشدد من قضية الهجرة، إلا أن ميركل اتخذت علناً موقفاً مرحباً بالمهاجرين بل واعتبرت وجودهم مسألة جوهرية من أجل مستقبل أفضل لألمانيا.

وكان تقدير الأحزاب المنافسة، في البداية، أن مثل ذلك الموقف سيكلف ميركل منصبها. لكن يبدو أن الناخب الألماني تابع عن كثب المأزق الذي تعانيه بريطانيا اليوم بعد استفتاء البريكسيت، والذي كان في الجوهر منه مسألة السيطرة على حدود بريطانيا والهجرة إليها، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تهميش قوى الشعبوية في ألمانيا وخصوصاً حزب «البديل الألماني» الذي يرفع شعار «ألمانيا للألمان» ويستخدم لغة عنصرية في كثير من الأحيان.

لكن المفارقة الجديرة بالتأمل هي أن الشعبوية الأميركية والبريطانية وضعت الحزب الديمقراطي الاجتماعي، المنافس الجدي لحزب ميركل، في وضع صعب. فقد اضطر الحزب لاتخاذ مواقف سياسية بدا معها أشبه بمواقف ميركل نفسها، بما يجعل من منافستها على المنصب عملية أكثر صعوبة. فترامب، الذي لا يحظى بشعبية داخل ألمانيا مثّل إشكالية للأحزاب التي تبدو مواقفها وكأنها شبيهة بمواقفه. وكان ذلك واضحاً مطلع هذا العام حين تعرض المنافس الرئيسي لميركيل وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، مارتن شولتز، لهجوم شديد عندما استخدم تعبير «نجعل أوروبا عظيمة من جديد»، الذي يشبه شعار ترامب «نجعل أميركا عظيمة من جديد».

فقد اضطر الحزب للتأكيد على أن دعوة رئيسه تلك لا تشبه مطلقاً دعوة ترامب من حيث المضمون.

وترامب، قبل أن يغير موقفه مؤخراً، اعتبر حلف الناتو قد «عفا عليه الزمن»، الأمر الذي جعل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني يقف بقوة وراء أنجيلا ميركل في الدفاع عن الحلف، وهو ليس بالضرورة الموقف الذي تتبناه عادة أحزاب يسار الوسط. الأخطر من ذلك أن رموز الحزب صارت تؤيد بقوة اتفاقات التجارة الحرة، التي تعاديها الشعبوية، رغم أن قطاعات واسعة من جمهور الحزب ترفض تأثيرها السلبي على مقدرات العمال على وجه التحديد.

وللأمانة، تنبغي الإشارة إلى أن مواقف أنجيلا ميركل في السنوات الأخيرة قد مثلت تغييراً حقيقياً في مواقف حزبها المحافظ. ففضلاً عن قضية الهجرة، اتخذت المستشارة الألمانية موقفاً مؤيداً بقوة لاتفاق باريس للمناخ واتخذت إجراءات قوية لحماية البيئة داخل ألمانيا وهو موقف طالما تبناه الحزب الديمقراطي الاجتماعي وأحزاب الخضر واليسار، لا حزبها. لكن لعل أهم تأثير للشعبوية البريطانية والأميركية هو ما يظهر في ضعف شعبية التيار الشعبوي الألماني وانحسار حظوظه في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

وإذا كانت هناك مؤشرات قوية على تأثير الشعبوية البريطانية والأميركية خارج حدودها في ألمانيا بعد فرنسا، فإن ما لم يتأكد بعد هو ما إذا كان ذلك التأثير سيستمر لما هو أبعد من الانتخابات المقبلة. ففوز ميركل، المرجح، معناه في الحقيقة هو فوز لسياسات العولمة النيوليبرالية التي تمثلها مواقف ميركيل من الاقتصاد العالمي.

ذلك لأن مواقف ميركل هي في الحقيقة امتداد للتوجهات الأيديولوجية التي حكمت من خلالها النخب في عواصم الغرب منذ التسعينات. وتلك السياسات كانت هي المسؤولة أصلاً عن الصعود المتنامي لتيار الشعبوية اليميني في أكثر من دولة، الذي استفاد مما نتج عن تلك السياسات من عدم مساواة اجتماعية هائلة، ونجح في إقناع قطاعات واسعة ممن تم تهميشهم بأن ضائقتهم الاقتصادية يتحمل مسؤوليتها الأضعف في المجتمع من أقليات ومهاجرين.

ويجدر هنا تأمل ما جرى في فرنسا. فالسياسات النيوليبرالية نفسها يتبناها الرئيسي الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي فاز على منافسته «الشعبوية» لو بن. لكنه بعد شهور قليلة من توليه انخفضت شعبيته بشكل مذهل ولأسباب تتعلق بتلك السياسات الاقتصادية. ومن هنا، يصبح السؤال الأهم الذي تثيره نتائج الانتخابات البريطانية والفرنسية ثم الانتخابات الألمانية الشهر المقبل هو ما إذا كان من الممكن بالفعل أن يحدث انحسار للشعبوية بل ولغيرها من التيارات التي تستغل معاناة قطاعات واسعة للترويج لرؤى عنصرية، دون أن تحدث معالجة جدية لما يترتب على العولمة النيوليبرالية من نتائج اجتماعية واقتصادية خطيرة تمس قطاعات واسعة من المواطنين.