دروس من الاتحاد الكونفيدرالي الألماني.. بقلم: أنس وهيب الكردي

دروس من الاتحاد الكونفيدرالي الألماني.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الخميس، ١٩ يوليو ٢٠١٨

بات مصير الاتحاد الأوروبي محل تساؤل بين النخب الأوروبية والعالمية، لقد اهتزت المؤسسات التي لطالما بدت راسخة، ومبعث استنارة حول العالم.
الهزة الأولى كانت اقتصادية، بلغت ذروتها في الأزمة اليونانية، الثانية اجتماعية، رسخها طوفان المهجرين الذي ضرب أوروبا، وأسفر عن تصاعد خطير في مستويات التطرف القومي والتعصب الشوفيني بين الأوروبيين. أما الهزة الثالثة فكانت سياسية، مع تحول الأحزاب اليمينية أرقاماً صعبة داخل اللعبة السياسية في الدول الأوروبية، حتى تحكمت بعدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
كان يمكن لبروكسل، المدينة التي تتوضع بها أغلب مقرات الأجهزة الأوروبية المشتركة، أن تتعامل مع تلك الهزات المتنوعة لولا أن السياق الجيوسياسي كان يشهد اضطرابات بلغت أمواجها العاتية أوروبا؛ فلقد استرجعت روسيا عافيتها وعادت إلى ممارسة الضغوط المتنوعة على القارة العجوز تماماً كما كانت تفعل منذ ثلاثة عقود، وتفلتت تركيا من قيود الإستراتيجية الأوروبية والأميركية وبدأت تشق لنفسها سياسة مستقلة، مناوئة في بعض أوجهها للأوروبيين، وذلك في حين تعمقت حالة الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وصوت البريطانيون على الطلاق مع الاتحاد الأوروبي، وأخذت الصين تتوغل اقتصادياً في الدول الأوروبية الهامشية. وكأن كل ذلك لم يكن كافياً، حتى وصل دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، الذي لم يتوانَ عن العمل على تغيير طبيعة العلاقة ما بين ضفتي الأطلنطي، وتعديل النظام الدولي الليبرالي الذي ناسب بناء الاتحاد الأوروبي واستقراره.
يعتقد الأوروبيون أن ترامب بأعماله إنما يسحب شبكة الأمان من تحت أرجلهم، ويجردهم من الضمان الأميركي الذي أتاح لهم تنظيم أنفسهم بعيداً عن القوة الروسية والقوميات المتصارعة، والنزاعات التجارية فيما بينهم. بل إن ترامب نفسه لا يخفي دعمه الكبير للقوى اليمينية الصديقة له داخل أوروبا، وازدرائه للقوى الليبرالية، والتي تتزعمها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويعتقد على نطاق واسع بوجود يد للولايات المتحدة في تأزيم الساحة السياسية الألمانية، وتضعضع الائتلاف الحاكم في برلين.
هذه الهزات أضعفت الاتحاد الأوروبي، دوله وأدوارها على الساحة العالمية. وبالرغم من وجود تحفظات على أداء بعض الدول الأوروبية التي تعمل لاستعادة هيمنتها السابقة على دول سبق واستعمرتها، إلا أن البناء الأوروبي يشكل وبكل تأكيد إحدى لبنات الأمن والاستقرار على المستوى العالمي، فهو بمثابة حل مبتكر للمعضلة الأوروبية عندما كانت الدول الأوروبية في صراعاتها فيما بينها تدمر بعضها البعض والعالم، أو تستجلب تدخلاً دولياً على أراضيها كما كان الحال إبان الحرب الباردة.
يشابه الاتحاد الأوروبي الاتحاد الألماني الكونفيدرالي، الذي انبثق إلى الوجود كاتحاد ما بين الدول، الولايات والمقاطعات الألمانية الغيورة على سيادتها المحلية، في ترتيب مماثل لجامعة الدول العربية، التي هدفت إلى ترسيخ الدولة القطرية في العالم العربي. في مؤتمر فيينا، الذي أنهى عقدين من حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية في أوروبا، اتفق المنتصرون الكبار على تأسيس الاتحاد بوصفه كابحاً للتطلعات الشعبية في الولايات الألمانية والتي أنعشتها حروب التحرير من الوجود الفرنسي ومبادئ الثورة الفرنسية، من جهة، وحاجزاُ قوياً يصد مطامح باريس ويمنع إعادة انبثاق العسكرية الفرنسية، من جهة أخرى.
وكما الاتحاد الأوروبي، كان الاتحاد الكونفيدرالي، إحدى لبنات النظام الدولي في أوروبا ما بعد نابليون، في حين مثل الحلف المقدس ما بين روسيا، بروسيا والنمسا، المناوئ للقيم الليبرالية والقومية، إضافة إلى مؤتمرات الدول الكبرى، أي الصيغة السابقة لمجلس الأمن الدولي، الإطار العام الذي انتظمت فيه مجموعة الدول الكبرى، وكان لانهيار الحلف المقدس عقب عهد الفوضى، الذي دخلته الدول الأوروبية بعد سقوط مستشار النمسا كليمنس فون مترنيخ أمام الثورات الليبرالية عام 1848، وحرب القرم 1852، أثرٌ كبيرٌ على استقرار الاتحاد الكونفيدرالي، الذي تماسك قليلاً قبل أن يندثر. جاء انهيار الاتحاد بعد هزيمة النمسا أمام بروسيا في حرب 1866، وعقب أن سحبت بريطانيا العظمى، الدولة المهيمنة على النظام الدولي في ذلك العصر، شبكة الأمان من تحت القادة الأوروبيين مواصلةً سياسة «العزلة الرائعة» بغض النظر عن استمرار تسوية فيينا لعام 1815، وعقب هزيمة إمبراطورية النمسا المهيبة أمام مملكة بروسيا العتيدة، كتب إمبراطور فرنسا نابليون الثالث إلى نظيره النمساوي، قائلاً: «لا بد أن اعترف أني شاهدت بقدر من الرضا انهيار الاتحاد الألماني الكونفيدرالي»، إلا أن جواب الهابسبورغي جاء أكثر حكمةً: «لم يحدث أن كان الاتحاد الكونفيدرالي عنصر تهديد لأي من جيرانه، وحل مكان الاتحاد الكونفيدرالي ألمانيا الموحدة التي أرهبت فرنسا وأوروبا سبعة عقود.
واليوم، يعيش الاتحاد الأوروبي تحت وطأة أزمات لا ترحم شبيهة بتلك التي هزت الاتحاد الكونفيدرالي في خمسينيات القرن التاسع العشر، أخطرها تحول البيئة الإستراتيجية الدولية، ولجوء القوى الكبرى الأخرى المجاورة لأوروبا، روسيا، الصين، الولايات المتحدة وتركيا، وفي وقت واحد على القارة العجوز ومجالاتها الحيوية. ذلك يأتي في حين تشهد الساحة السياسية الأوروبية حالة غليان داخلي لا يزال يتصاعد، إضافة إلى خلافات بين دولها على أفضل إستراتيجية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. إن تماسك الاتحاد الأوروبي يتطلب قراراً إستراتيجياً كبيراً على مستوى دول القارة، وأيضاً كف القوى الكبرى عن الضغط على أوروبا وإلا قد يأسف العالم على اتحاد شكل حلاً لمعضلة الأمن الأوروبية التاريخية، ومثلت نهايته تصعيداً كبيراً للصراع الدولي أدى إلى أزمات متناسلة لم يكن من الممكن تسويتها وفجرت أولى حرب عالمية في التاريخ، ولا شك بأن التاريخ لا يعيد نفسه لكن الاتحاد الأوروبي يظل عاملاً هاماً للأمن العالمي والأفضل أن يبقى لا أن يندثر، ولو أراد ذلك قادة آخرون في النظام الدولي، أولهم ترامب.