ترامب رمز الانقسام الأميركي.. بقلم: وليد شرارة

ترامب رمز الانقسام الأميركي.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١١ سبتمبر ٢٠١٨

بعد الحرب العالمية الثانية. الحملة الإعلامية والسياسية الشرسة التي يتعرض لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية بعد نحو شهرين، مؤشر واضح على أن قطاعاً واسعاً يضم إلى الحزب الديموقراطي بتياراته المختلفة كتلاً على يساره وأخرى على يمينه تمثل بعض أجنحة الحزب الجمهوري قد دخلت في معركة تهدف إلى هزيمة الجمهوريين في الانتخابات المذكورة، وبالتالي فتح الباب أمام إمكان إقالة الرئيس، أو على الأقل استخدام هذه الانتخابات كمحطة لحشد القوى من أجل منع إعادة انتخابه عام 2020. ويأتي التزامن بين صدور كتاب «خوف: ترامب في البيت الأبيض» للصحافي الشهير بوب ودوورد ونشر يومية النيويورك تايمز لمقال غير موقع منسوب لعضو مجهول من الإدارة الحالية، يعتبران أن المتربع على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض شخص خطر على مستقبل النظام السياسي الديموقراطي في الولايات المتحدة وعلى وحدة البلاد واستقرارها وعلى مصالحها الحيوية، ليؤكد وجود مثل هذه الحملة. وقد انضم الرئيس السابق باراك أوباما إليها أخيراً، عندما دعا في خطاب ألقاه أمام طلبة جامعة إلينوي (Illinois) يوم الجمعة الماضي، بعد استعراضه للأخطار الناجمة عن سياسات ترامب، إلى المشاركة في الانتخابات والتصويت بكثافة ضد هذا الأخير. ستيفن بانون، كبير موظفي البيت الأبيض في السنة الأولى من حكم ترامب، قال من جهته إن الرئيس يتعرض لمحاولة انقلابية، في سعي واضح إلى تعبئة قاعدته الشعبية لمواجهة الحملة المعادية. من الصعب توقّع نجاح أو فشل هذه الحملة في تحقيق غايتها لكن ما تظهره حالياً هو انقسام بين «أميركتين» تقف إحداهما حتى الآن خلف ترامب بقوة.
أظهر استطلاع للرأي لموقع 538 الأميركي المتخصص بالاستطلاعات المرتبطة بالانتخابات الرئاسية الأميركية أنه بعد مضي 595 يوماً على وصوله إلى سدّة الرئاسة (حتى تاريخ إجراء الاستطلاع)، ما زال ترامب يتمتع بتأييد أربعين في المئة من الناخبين، وهو رقم يقترب من أرقام نسبة تأييد رونالد ريغان وبيل كلينتون بين عهديهما الأول والثاني. صحيح أن نسبة الساخطين عليه وصلت إلى ثلاثة وخمسين في المئة، لكن كتلة اجتماعية واسعة ومتماسكة مستمرّة بمنحه ثقتها وتعبر عن دعمها له في جميع المهرجانات والاحتفالات ذات الطابع الانتخابي، التي لم يتوقف عن تنظيمها حتى بعد وصوله إلى السلطة في طول الولايات المتحدة وعرضها. فترامب مقتنع أن تعميق الاستقطاب بين خصومه ومؤيديه والحفاظ على ما يشبه حالة الاستنفار العام في صفوف هؤلاء هما بين الشروط الرئيسية لضمان بقائه في السلطة وإعادة انتخابه عام 2020. ولا يبدو أن الحملة الإعلامية ــــ السياسية التي تستهدفه قد نجحت في خفض الالتفاف من حوله عبر التركيز على طباعه الحادة والمتقلبة وعلى عدم اتزانه وتهوره. ما يفسر متانة الالتفاف هو جملة من القناعات الأساسية التي تجمع بين ترامب ومؤيديه حول الواقع الحالي للولايات المتحدة ومستقبلها والتهديدات المحيقة به. ترامب وأنصاره يعتقدون أن التهديد الأكبر داخلي مرتبط بخيانة النخب الأميركية السياسية والاقتصادية للمصالح الوطنية عبر اعتمادها سياسات العولمة المنسجمة مع مصالحها الخاصة ومصالح أعداء ومنافسي الولايات المتحدة في الصين وأوروبا والهند والبرازيل وجميع البلدان الأخرى التي استفادت بدرجة أو بأخرى منها. ائتلاف من المتضررين من النيوليبرالية المعولمة ذو غالبية ساحقة بيضاء ولكن عابر للطبقات الاجتماعية يرى أن مجموعة من المتآمرين، مشكوك بأصولهم ومطعون بولائهم للوطن، ضحوا بمصالحه على مذبح أرباحهم الضخمة وامتيازاتهم وبأن إزاحتهم نهائياً من السلطة وتطهير مؤسسات الدولة من أنصارهم هو أولوية الأولويات وأم المعارك. وقد اتضح أن ترامب منذ انتخابه يسعى تدريجاً إلى استبدال النخب المعارضة له داخل مؤسسات الدولة بأخرى موالية، ويقدم ذلك على أنه استعادة لسيطرة أميركا «الحقيقية» على دولتها. نقطة إضافية تحد من إمكان تأثير الحملة الإعلامية ـــ السياسية في جمهور ترامب هي انعدام ثقته الكاملة بغالبية وسائل الإعلام الأميركية التي يعتبرها أبواقاً للنخب المعولمة وذهب الرئيس الأميركي لحد اعتبارها «عدوة للشعب». وكان بعض المحللين قد جزم بأن أحد أسباب تصويت قسم من الأميركيين له في الانتخابات الرئاسية السابقة هو عداء وسائل الإعلام له. ولا شك في أن إحدى السمات البارزة للسياق العالمي الراهن، وهي صعود دور ونفوذ القوى غير الغربية ومنافستها لتلك الغربية على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية، لديها انعكاسات وتداعيات أيديولوجية صادمة على المجتمعات الغربية إلى جانب التداعيات الاقتصادية والسياسية، أيقظت وأججت «العصبية البيضاء»، التي يفضل الديموقراطيون المستنيرون تسميتها «شعبوية»، مع ما يكشفه ذلك عن مزيج من الخوف والازدراء حيال الشعب، التي ترى في الولايات المتحدة ترامب خير معبر عنها.
لم يعد للعولمة من وعود سعيدة بالنسبة لقطاعات وازنة من المجتمعات الغربية. في أواخر تسعينات القرن الماضي، كتب أحد منظريها، الصحافي الأميركي توماس فريدمان، بأن «اليد الخفية للسوق لا تعمل من دون القبضة الخفية للبنتاغون. ماك دونالدز يزدهر أكثر مع ماك دونال دوغلاس مخترع مقاتلة أف 16». وسيؤدي المزيد من تراجع الهيمنة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة على صعيد عالميّ إلى احتدام أكبر لتناقضاتها الداخلية الاجتماعية والسياسية وانكشاف أوضح لوجهها المظلم والقبيح.