عن أعياد الزمن الجميل .. بقلم: د.عبد العزيز المقالح

عن أعياد الزمن الجميل .. بقلم: د.عبد العزيز المقالح

تحليل وآراء

الجمعة، ٨ يوليو ٢٠١٦

حتى لا نسقط تحت قبضة الوضع الكارثي الراهن عربياً وإسلامياً، لابد أن تأخذنا الذاكرة في إجازة ذهنية قصيرة إلى الزمن الجميل الذي عرفنا جزءاً يسيراً منه في طفولتنا، وجزءاً يسيراً آخر منه في شبابنا، وكان مكانه الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، وما صاحب ذلك الزمن من أحلام وآمال. صحيح أن ظروف البعض في ذلك الزمان، ونحن من هذا البعض، لم تكن كما يرام إلاّ أنها كانت أخصب سنوات العمر وأحفلها بالتطلعات المشرقة، فقد كانت الأرض العربية خلال تلك الفترة تموج بالمتغيرات وبالتحديات الواثقة لأعداء الأمة على اختلاف مطامعهم وأجندتهم، كان الإنسان العربي - يومئذ - يعيش حالة من القناعة والرضا، وكانت أعياده رائعة بسيطة، ولم يكن غول الانفتاح الاستهلاكي قد فرض وجوده القاهر على الأذواق والأشواق، على الأغنياء والفقراء، على من يمتلكون كل شيء، ومن لا يملكون شيئاً على الإطلاق.
لذلك فقد كانت أعياد الأمس مختلفة أشد الاختلاف عن أعياد اليوم الكرنفالية، وكان أغلب أطفال قريتنا، وأطفال بقية الأرياف يقنعون من العيد بتلطيخ أيديهم وأحياناً أرجلهم بمادة «الحنّاء»، وكان التنافس قائماً فيما بينهم على من تكون الحنّاء في يديه أغمق وأكثر احمراراً، وربما كانت الأسر القادرة على تغيير قمصان أبنائها مرة واحدة في العام مستغلة مناسبة العيد لهذا التغيير، ولم يكن مرض الاستهلاك قد أصاب الناس، سواء في الريف أو المدينة، وما أضافته كوابيس الأسعار إلى كوابيس الواقع السياسي والأمني، ما يجعل الحديث عن أعياد الأمس نوعاً من «اليوتوبيا» المثالية التي يكتفي من عاشوها بالفرار إلى أيامها وترك المجال للذاكرة تسترجع بعض فصولها، وجوانب من الشعور بالرضا والإحساس بأهمية المستقبل الذي سيكون أفضل بكل توقعاته واحتمالاته.

ولعل أسوأ ما في الواقع الكارثي الراهن أنه سلب الناس القدرة على تصور مستقبل يكون مختلفاً عن الحاضر، ومنعهم من أن يحلموا بواقع إنساني جديد لا تكون الحروب والمجازر من عناوينه اليومية الثابتة. ولهذا فليس أمامنا سوى اجترار وقائع أقرب محطة من الماضي، واستعادة حسناته وما كان يبشر به من تجاوز للانكسارات والإحباطات. ومن حقي هنا - وهو حق أي كاتب يريد أن يصل صوته إلى الجمهور القارئ - ألا أتردد في تحميل شعبنا العربي الكريم الجزء الأكبر من مسؤولية ما يحدث، فقد خرج عن خطه المستقيم وأسهم في فتح الأبواب والنوافذ على كل ما اعتبره جديداً، وما هو بالجديد، ومفيداً وما هو بالمفيد، واسترسل في الأيام العادية كما في أيام المناسبات في الإقبال على الكماليات متجاهلاً ما يتسبب عن ذلك التصرف المسرف من أعباء على الاقتصاد القومي، ومن تشجيع في شراء مواد استهلاكية ضررها أكثر من نفعها، وأنها في الحقيقة ضارة ولا نفع فيها.

إن حنين الإنسان العربي إلى الزمن الجميل الماثل في ذاكرته ليس ضرباً من «النوستاليجيا»، أو مرض الحنين إلى الماضي، بقدر ما هو إدانة لما شهده من زمن مملوء بالمنغصات والألم الثقيل، وفي هذا ما يبرر ظهور تلك الأعمال الإبداعية من روايات وأفلام تسعى إلى تجاوز الواقع الراهن، وتعود بالقارئ والمشاهد إلى أزمنة رومانسية. قد يرى البعض فيها نوعاً من الهروب، أو النكوص عن مواجهة الواقع، في حين ترى فيها الأغلبية موقفاً لا يخلو من رؤية نقدية غير مباشرة لهذا الواقع، وفي الوقت ذاته تذكيراً بزمان، أو أزمنة كانت أرحم بالبشرية، وأقل ضرراً من عواصف الحاضر الذي تكاثرت فيه عوامل الرعب وأسباب وموجبات الخوف، ووصلت إلى درجة غير مسبوقة في التاريخ.