لماذا أصبحت فرنسا على خط المواجهة في الحرب مع تنظيم «الدولة الإسلامية»؟

لماذا أصبحت فرنسا على خط المواجهة في الحرب مع تنظيم «الدولة الإسلامية»؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٩ يوليو ٢٠١٦

في أحدث سلسلة من الهجمات الإرهابية في البلاد خلال السنوات الأخيرة، سحقت شاحنة حشود الناس الذين تجمّعوا في أثناء احتفالات العيد الوطني لفرنسا "يوم الباستيل"، بمدينة نيس. ما لا يقل عن 84، وربما يصل إلى 100 شخص قُتلوا في هذا الهجوم المروّع.

كان أصدقائي المسلمون في فرنسا وأجزاء أخرى من أوروبا في حيرة لنقل الرعب والارتباك الذي يعيشه أصدقاؤهم وأسرهم الذين شهدوا المجزرة. لقد وصفوا الصدمة الشديدة لرؤية الجثث الغارقة في الدماء المنتشرة في جميع أنحاء الأرض. وقالت إحداهم إنَّ أفراد عائلتها كانوا في مكان الحادث للاحتفال بيوم الباستيل مع زملائهم من المواطنين الفرنسيين. وكانوا في مدينة نيس لقضاء عطلة ولم يستطيعوا تصديق ما حدث. تحدثوا مرارًا وتكرارًا عن انتشار الجثث في كل مكان، ومعظمهم من المسلمين.

وحتى الآن، تبدو الحقائق غامضة. وأكّدت مصادر الشرطة أنَّ سائق الشاحنة، محمد لحويج بوهلال، هو مواطن تونسي يعيش في فرنسا، وهي نتيجة مستخلصة من أوراق الهوية التي عثروا عليها في السيارة. كان المشتبه به معروفًا لدى السلطات الفرنسية في حادثة سرقة وبلطجة، وليس في حادث إرهابي.

وقال بعض الشهود إنهم سمعوا السائق يصرخ "الله أكبر" خلال الهجوم. وقال المسؤولون إنّهم عثروا على أسلحة زائفة في الشاحنة، إلّا أنَّ السائق استخدم مسدس آلي.

والسؤال: ما الذي يمكننا أن نستنتجه ببعض اليقين هنا؟

قطع اللغز

أولًا، تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لم يعلن رسميًا مسؤوليته عن هذا الهجوم (حتى كتابة هذا المقال في 15 تموز)، مما يشير إلى أنَّ الهجوم لم يكن موجّهًا من مقر التنظيم. ومع ذلك، احتفل أنصار داعش على مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الهجوم.

ثانيًا، على الرغم من هذا، فإنَّ فرضية الذئب المنفرد ليست منطقية هنا. بالرغم من أنَّ السائق خبأ أسلحة زائفة وقنابل وهمية في شاحنته، إلّا أنَّ حقيقة أن لديه مسدس سريع لإطلاق النار تدل على أنه كان لديه إمكانية الوصول إلى شبكة إمدادات إجرامية. في كثير من الأحيان لا يمكن للص أن يمتلك مسدس آلي، وهو ما يعني أنّه كان على صلة بمجموعة تتاجر في الأسلحة في السوق السوداء.

من الواضح أيضًا أنّه يعرف كيفية إطلاق النار من سلاح آلي، مما يشير إلى تلقيه التدريب على استخدام الأسلحة النارية. وربما يكون لديه شركاء.

ثالثًا، إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند – "سنواصل ضرب الذين يهاجموننا على أرضنا" – هي إشارة ليست سريّة لانخراط فرنسا في غارات جوية في سوريا ضد داعش. بيان هولاند يعكس ما تؤمن به الأجهزة الأمنية الفرنسية بالفعل باعتبارها الفرضية الأقوى: أنّه حتى لو لم يكن هذا الهجوم موجّهًا من داعش، فهو مستوحى من أعمال التنظيم.

رابعًا، عرفت السلطات الفرنسية أنَّ هجومًا من هذا النوع كان على وشك أن يحدث. طيلة سنوات عديدة، بطبيعة الحال، يحثّ تنظيم القاعدة وتنظيم داعش أتباعهم في جميع أنحاء العالم لاستخدام الشاحنات والسيارات كأسلحة للهجوم. ولكنَّ السلطات الفرنسية كان لديها معلومات أكثر تحديدًا.

يوم الثلاثاء الماضي، تمّ نشر الشهادة البرلمانية لرئيس جهاز الأمن الداخلي في فرنسا، باتريك كالفار، في تقرير رسمي من 300 صفحة. في شهادته التي أدلى بها يوم 24 أيار/مايو، حذّر كالفار قائلًا: "أنا مقتنع أنهم سوف يستخدمون المركبات المفخخة والقنابل، فهذه الأدوات تزيد قوتهم".

خامسًا، باعتباره الهجوم الأحدث في سلسلة من تصاعد الهجمات الإرهابية على فرنسا، يجب النظر إلى هجوم نيس كجزء من سلسلة متصلة بالعنف الإرهابي، وليس كمجرد حلقة واحدة. وفي هذا السياق، مهما كانت استجابة الدولة الفرنسية للهجمات الإرهابية السابقة – حالة الطوارئ، وتصاعد الغارات الجوية في سوريا، وهلم جرا – فقد فشلت فرنسا فشلًا ذريعًا في مواجهة الإرهاب.

سادسًا، يمكننا أن نكون على يقين أنَّ هجوم نيس، مثل الهجمات السابقة، تبنته شبكة مستوحاة من تنظيم داعش في فرنسا لديها القدرة على الوصول إلى خطوط إمداد السوق السوداء الإجرامية التي لا تزال فاعلة تمامًا، على الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة الفرنسية.

هذه الحقيقة، وحدها، تفتح مجموعة أوسع من الكوارث الجيوسياسية، مما يقودنا إلى النقطة السابعة بدرجة معقولة من اليقين: أن نفهم كيف ولماذا كانت هذه الشبكة قادرة على استمرار الوصول إلى المجتمعات المسلمة في فرنسا. يجب أن نتذكر أن العديد من ضحايا هجمات نيس هم من المسلمين الفرنسيين الذين يحتقرون داعش، ولكن لا يسعنا إلّا أن نعترف بأنَّ هناك مشكلة حقيقية محلية وإقليمية في فرنسا.

الحرب التي لم نسمع عنها ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"

إشارة هولاند إلى داعش في سوريا، في هذا الصدد، تبدو خاطئة لأنَّ فرنسا لا تشنّ الحرب في سوريا، بل تشنّ حربًا أقرب إلى حدودها، على وجه التحديد حيث تنتمي شبكة إمداد السوق السوداء المتنامية: شمال أفريقيا.

وهذه هي النقطة الثامنة: استمرار استهداف فرنسا لا يمكن تفسره إلّا في ضوء تصاعد الحرب السريّة التي تخوضها فرنسا عبر البحر الأبيض المتوسط في المغرب العربي.

على مدى نصف العقد الماضي، توسّعت فصائل إسلامية متشددة تابعة لكل من تنظيم "الدولة الإسلامية" وتنظيم القاعدة بشكل كبير في شمال أفريقيا. وبدافع الفراغ الناشئ عن حرب الناتو على ليبيا، التي نجحت في الإطاحة بالرئيس المخلوع معمر القذافي وتركت البلاد في حالة حرب أهلية ضروس، وجدت بعض الجماعات الإسلامية قاعدة جديدة هناك.

ليبيا الآن نقطة انطلاق مثالية للمتشددين الإسلاميين لتوسيع انتشارها في جميع أنحاء شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. والنتيجة هي خليط من خلايا تنمو بسرعة من الجهاديين الموالين للمشاريع الإرهابية المتعددة: جماعة أنصار الشريعة، وحركة "المرابطون"، وجماعة بوكو حرام، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وتنظيم "الدولة الإسلامية".

كما أسس المتشددون معقلًا لهم في مالي، وأكثر من ذلك في أعقاب تدخل فرنسا هناك. في عام 2013، تدخلت فرنسا لدحر تمرد المتشددين الإسلاميين في الشمال، ولكنَّ هذا التدخل تحوّل إلى إعمال شبه استعمارية.

فرنسا لديها الآن وجود عسكري دائم في مالي، ولكن ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها العالمي لعام 2016، لا يزال الأمن في تدهور مستمر مع تزايد الهجمات من الجماعات الإسلامية والانتهاكات التي ترتكبها القوات الحكومية في مالي. لقد شهد الوجود العسكري الفرنسي تكثيفًا للعنف الإسلامي، الذي "زاد في الشمال وانتشر في وسط وجنوب مالي،" وفقًا لمنظمة هيومان رايتس ووتش.

ولكن وحشية النظام المالي المدعوم من فرنسا لم تخدم سوى الإسلاميين. لقد اجتاحت حرب فرنسا جميع أنحاء المنطقة. هناك الآن حوالي 3500 جندي فرنسي يتمركزون في قواعد عسكرية في مالي، موريتانيا، النيجر وبوركينا فاسو وتشاد، والتي تمثل محور القيادة والسيطرة للمجمّع الأمني العسكري الفرنسي الأمريكي.

هذا بالإضافة إلى انخراط قوات العمليات الخاصة الفرنسية والأمريكية في برنامج سريّ لإنشاء وحدات خاصة لمكافحة الإرهاب في النيجر ومالي وموريتانيا وليبيا.

ولكن كما لاحظ ناثانيل باول في صحيفة "فورين أفيرز"، وهو متخصص في تاريخ التدخلات العسكرية الفرنسية، فإنَّ هذه العملية "قد يكون ضررها أكثر من نفعها، لأنها توفر دعمًا حاسمًا للحكومات القمعية التي هي في صميم مشاكل منطقة الساحل".

قبل داعش: زعزعة استقرار منطقة الساحل

تأسست البنية الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة في جميع أنحاء منطقة الساحل قبل صعود داعش بفترة طويلة. في الواقع، أدى انخراط الولايات المتحدة إلى اتساع سيطرة الجماعات الإسلامية في المنطقة.

البروفيسور جيرمي كينان، الخبير العالمي في منطقة الصحراء والساحل بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن، يشير إلى أن هذه البنية الأمنية، التي تقع الآن تحت ولاية "أفريكوم" التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، تمّ إنشاؤها منذ أكثر من عشر سنوات في شكل "اتفاق للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب" بين الجزائر والنيجر ونيجيريا وتشاد. هذا الاتفاق "ضمّ بفعالية الجانبين الغنيين بالنفط معًا في مجموعة معقدة من الترتيبات الأمنية بتخطيط أمريكي".

الوثائق الاستخباراتية، كما وثّق كينان وغيره، أتثبت أنّه في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا تدرك جيدًا أنَّ المخابرات العسكرية الجزائرية لعبت لعبة مزدوجة؛ فهي تموّل سرًا المسلحين التابعين لتنظيم القاعدة كآلية لتعزيز سيطرتها المحلية وفرض سلطتها في الخارج.

في كانون الثاني/يناير عام 2013، أطلقت فرنسا حربها في مالي، وقال ضابط مكافحة التجسس السابق بوكالة الأمن القومي، جون شندلر، إنَّ هناك "أدلة وافرة" على أنَّ المخابرات الجزائرية "تسيطر على بعض الجماعات الجهادية العاملة تحت لواء تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة الساحل".

وفقًا لكينان، الذي يعمل مستشارًا لوزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الخارجية البريطانية بشأن قضايا الأمن الإقليمي، امتد هذا الدعم واسع النطاق لتنظيم القاعدة لدرجة أنّه أصبح انتفاضة إسلامية في مالي.

ولكن بدلًا من اتخاذ إجراءات صارمة على رعاية الجزائر للإرهاب الإسلامي، تجاهلت الولايات المتحدة وبريطانيا ذلك، وغزت فرنسا مالي.

في أعقاب الوجود العسكري الأنجلو فرنسي في جميع أنحاء المنطقة، تمتع الإسلاميون بهيمنة كبيرة هناك. العمليات السريّة الجارية والانتهاكات الوحشية، جنبًا إلى جنب مع الدعم واسع النطاق للأنظمة القمعية، واحدة منها - الجزائر - برعاية مباشرة من بعض الفصائل الإسلامية التي تدير أعمال شغب في جميع أنحاء المنطقة، يعمل على تأجيج المظالم المحلية ولكن لم يفعل سوى القليل لإغلاق شبكات الإرهاب.

يحاول الفرنسيون القيام بدوريات على طريق الهجرة إلى ليبيا، الذي يمثل سوق سوداء كبير للأسلحة التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية. ولكن منطقة العمليات تمتد إلى 15000 ميل مربع. ولا عجب، إذن، أنَّ هذه العمليات لديها عدد قليل من النجاحات الملموسة.

المظالم؟

مع تدفق المقاتلين الأجانب وانضمامهم إلى مجموعات متنافسة مختلفة، فإنَّ العمليات العسكرية الأمريكية-الفرنسية في الساحل تخوض معركة خاسرة.

المظالم المستمرة في المنطقة هي أداة تجنيد قوية لهذه المجموعات الإرهابية؛ فالحكومات الفاسدة وزيادة الفقر، في ظل زيادة عدد الشباب، خلق موجة من الاستياء ضد الوضع الراهن. وفي هذا الفراغ، انحاز الوعظ من رجال الدين إلى تنظيم القاعدة وأصبح لتنظيم داعش قاعدة شعبية كيرة.

الدعم الأمريكي الفرنسي للحكومات القمعية في المنطقة، باسم مكافحة الإرهاب، يؤجج المزيد من الاستياء.

هذا يؤدي إلى الحقيقة التاسعة: داخل فرنسا، تنعكس هذه المظالم مع استهداف الأمن الفرنسي للمسلمين الفرنسيين العاديين بشكل غير متكافئ في حالات الطوارئ.

وكشف تقرير نشرته منظمة العفو الدولية أنَّ تدابير الطوارئ "تُنفّذ بطريقة تمييزية، وتستهدف المسلمين تحديدًا، في كثير من الأحيان على أساس معتقداتهم وممارساتهم الدينية وليس على أساس دليل ملموس على وجود سلوك إجرامي".

تمّ إجراء أكثر من 3242 عمليات تفتيش للمنازل وإصدار أكثر من 400 أمر بالإقامة الجبرية، مع القليل من النتائج الملموسة من حيث نجاحات المخابرات الفرنسية ضد الإرهاب. كما تمّ إغلاق المساجد على الرغم من تقارير الشرطة التي تشير إلى عدم وجود "أي عنصر يبرر فتح تحقيق بالأساس".

وبدلًا من ذلك، داست الحكومة الفرنسية على حقوق مئات من الرجال والنساء والأطفال، وتركتهم في حالة من الصدمة ووصمة العار"، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية.

وكما أثبت هجوم نيس، لم يفعل هذا النهج شديدة القسوة أي شيء لمساعدة السلطات الفرنسية على وقف الإرهاب. والنتيجة هي أنَّ المجتمعات الإسلامية المهمشة في فرنسا تشهد انتهاكات روتينية من الدولة. وبالنسبة لمعظم الناس في هذه المجتمعات، هذا يتوقف هناك.

ولكن بالنسبة للأقلية، فإنَّ انتهاكات الدولة تضفي مصداقية على ادّعاءات المتعاطفين مع تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، الذين يزعمون أن المسلمين ليسوا موضع ترحيب في الغرب، وأنهم مجبرون على الانضمام إلى الجهاد ضد الغرب، وأنّه يجب أن يهاجروا إلى "الدولة الإسلامية"، وأنه إذا لم يفعلوا ذلك، فإنهم مرتدون يستحقون الموت مثل نظرائهم غير المسلمين.

النقطة العاشرة، إذن، هي أن هذه الحرب المتصاعدة، التي تحدث ليس فقط في سوريا، ولكن تمتد من ليبيا عبر شمال أفريقيا، هي عامل تجنيد مثالي لأيديولوجية الإرهاب التي تحرك هذه الجهاديين: إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا.

فمن الأهمية بمكان أن نتذكر ما يعني هذا: داعش يريد تدمير المنطقة الرمادية، الساحات متعددة الأعراق والتضامن متعدد الأديان، في كل من العالم الإسلامي والغربي. المسلمون الذين يستمرون في المشاركة من المنطقة الرمادية يعتبرون مرتدين ويجب أن يكونوا عبرة لغيرهم، خاصة حين المشاركة في المنطقة الرمادية - تمامًا كما حدث في هجوم نيس - حيث كان الناس من جميع الخلفيات والديانات المختلفة يحتفلون معًا.

وهذا يقودني إلى النقطة الأخيرة: يجب علينا ألّا نسمح بفوز داعش عن طريق تعريض المنطقة الرمادية للخطر. في مثل هذا الوقت من الأزمة، قد يبدو النهج الرجعي جذابًا، ولكن في السنوات القليلة الماضية أثبت أنه لا يحمل سوى القليل من الثمار. في الواقع، تمثل المنطقة الرمادية ما يميّزنا "نحن" عن الإرهابيين: نحن نحب بعضنا البعض، بغض النظر عن كل شيء. وسنقف معًا، بغض النظر عن أي شيء.