بائع السحلب أردوغان.. بقلم: صقر أبو فخر

بائع السحلب أردوغان.. بقلم: صقر أبو فخر

تحليل وآراء

الخميس، ٢٨ يوليو ٢٠١٦

من المحال أن نعثر على جماعات سياسية تستلذ بالفشل مثل «الإخوان المسلمين» ومشتقاتهم. والتجربة «الإخوانية» في مصر وسوريا والأردن، على سبيل المثال، أفضل برهان على هذه الخلاصة. أما رجب طيب اردوغان الذي رفع مراراً في أثناء خُطبِه التي لا تنتهي شعار «رابعة»، فقد بات مثل بائع السحلب حقاً، فهو لا يستطيع أن يخفي آثار ما تفعل يداه أو يزيل رائحة منتجاته عن بدنه وثيابه، مهما حاول أن يذيق الأتراك، والعرب أيضاً، حلويات دسمة.
والخلاصة البهية والجلية التي يمكن الركون إليها إلى حد بعيد هي أن اردوغان لم ينجح في إفشال الانقلاب العسكري ضد حكمه وحكومته في 15/7/2016، لأن الانقلاب نفسه كان فاشلاً منذ البداية، وكان واهناً جداً خلافاً لكلمة «الرعد» (يلدرم) التي اتخذها الانقلابيون إسماً سرياً لحركتهم.
وها نحن اليوم نشهد انقلاباً عسكرياً فاشلاً أعقبه، بسرعة، انقلاب مدني ينفذه سياسي فاشل ضد العسكر بالتدريج.

بنات آوى وأعراسها
خمسون ألفاً سُرِّحوا من وظائفهم وما زال العدّاد يطوي أرقاماً بعد أرقام: عسكريون، قضاة، معلمو مدارس، أكاديميون، إعلاميون، ضباط شرطة، موظفون. وثمة أكثر من ثلاثة عشر ألف معتقل. أكلُّهم متورطون في الانقلاب على اردوغان الذي وصلته المعلومات الأولى عن الانقلاب من صهره قبل ربع ساعة فقط من بداية التحرك؟ إنه «عرس واوية» إذاً! لكن الحقيقة الواضحة أن ما يجري هو، في جوهره، حملة «مقدسة» ضد معارضي اردوغان وجماعته، وغايتها المكشوفة هي تصفية جماعة فتح الله غولن (حركة «الخدمة») نهائياً بإغلاق أكثر من ألف مدرسة، وهو ما يذكرنا بعملية «اجتثاث البعث» في العراق التي نفذتها مجموعات مذهبية فاشية. وبهذا المعنى، فإن حزب «العدالة والتنمية» الذي تحوّل إلى ميليشيا تعتدي على العلويين الأتراك، وتهاجم الجنود في منازلهم وثكناتهم، فتحقرهم وتهينهم وتركِّعهم أمام الناس في الشوارع، بماذا يختلف عن حزب «الدعوة» العراقي بفروعه المتعددة، وعن المجاميع المذهبية المنفلتة من عقالها في شوارع بغداد وديالى والفلوجة؟

الفشل والتردد
قبل الانقلاب الفاشل لم يتورع اردوغان عن نزع الحصانة عن 152 نائباً، وعن سجن عشرات الصحافيين بذرائع مستخلصة، لا من القوانين السارية، بل من مخزون الآراء الفقهية، فظهر كأنه من طراز الفقيه الأًلعبان، إذا حان وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى، وصار لا يُسأل عما يفعل، بل يُسألُ عبادُه حتى عما لم يفعلوا، الأمر الذي يذكِّرنا بالخطبة البتراء لزياد بن أبيه التي يقول فيها: «إني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: إنجُ سعد فقد هلك سُعيد، أو تستقيم لي قناتكم».
منذ إزاحة الخوجا أحمد داود أوغلو، الأكاديمي الجيد والسياسي الفاشل، غرق رجب طيب اردوغان في التجريب السياسي، وخابت رهاناته كلها. فمصر التي استقبلته كأحد سلاطين بني عثمان في أوائل العام 2013، كرهته في سنة 2014. وحلفه مع فتح الله غولن تداعى في سنة 2013 لأنه لا يطيق الشراكة مع أحد على طريقة «الإخوان المسلمين». والمنطقة الآمنة في شمال سوريا التي اعتقد أنها ستمنحه أوراقاً قوية في الحرب السورية تطايرت هباء فور نزول الروس في الأراضي السورية في 30/9/2015. وبهذا النزول رُسمت حدود الدور التركي في سوريا التي تكاد تكون واهية تماماً. واستناده إلى «الحلف الأطلسي» وعلاقته الوثيقة بالولايات المتحدة لم ينفعاه في مواجهة المسألة الكردية وانفجارها عسكرياً في وجهه، فقد دعمت الولايات المتحدة الأكراد، خصوصاً، أكراد سوريا، وبهذا الفشل المتعدد الرؤوس خاف وذعر من إمكان تحرك مؤسسة الجيش ضده، وإطاحته على الطريقة التركية، أو المصرية.

مثل عين السمكة
في لقائه مع قناة «الجزيرة» القطرية (الأربعاء، 20/7/2016)، اتهم اردوغان جماعة فتح الله غولن بأنها منظمة إرهابية، وهي ليست كذلك كما يعرف القاصي والداني. وجعل من ابتزاز أوروبا باللاجئين أحد عناصر السياسة الخارجية التركية. وشجع عمليات سرقة مصانع حلب وإهراءاتها. وتاجر ابنه بالنفط السوري مع «داعش»، وأنكر ذلك. ودعا الأتراك إلى الانتشار في الشوارع للدفاع عن الديموقراطية، وهذا تضليل، لأن المقصود هو الدفاع عن حكومة حزب «العدالة والتنمية»، لا عن الديموقراطية، إذ إنه معادٍ فكرياً للديموقراطية في الجوهر. فـ «الإخوان المسلمون»، في الأساس، يرفضون الديموقراطية لأنها تعني، في أحد وجوهها، «حكم الشعب للشعب»، ويعرضون فكرة «الحكم لله» و «الإسلام هو الحل». وللمرشد مصطفى مشهور مقالة مشهورة يقول فيها: «إن دعوة الناس إلى الديموقراطية دعوة تناهض وتحارب الإسلام، لأن الإسلام لا يعرف مثل هذه المسلمات. وإنَّ مَن ينادي بالديموقراطية أو العلمانية... إنما يرفع رايات تخالف منهج الله وتحارب الإسلام» (مجلة «الدعوة»، العدد 57، كانون الثاني/يناير 1981). والعجيب أن تظاهرات بائسة وقليلة الأعداد سارت في شوارع بعض المدن اللبنانية تأييداً لاردوغان، وكانت الدوافع المذهبية سافرة. فما هي تلك العلمانية أو الديموقراطية التي لا تثير إلا المشاعر المذهبية؟ ومهما يكن الأمر، فإن من عيوب الديموقراطية، كما قال برنارد شو، أنها «تجبرنا على سماع الحمقى».
على هذا المنوال استنكر «الإخوان المسلمون» الانقلاب العسكري في مصر ضد محمد مرسي، واستنكروا بشدة محاولة الانقلاب في تركيا، لكن ما بالهم أيدوا الانقلاب العسكري في غزة في 14/6/2007، وأيدوا، قبل ذلك انقلاب الجنرال ضياء الحق على ذوالفقار علي بوتو؟ وفي الميدان نفسه استنكرت بعض الشظايا الإسلامية زيارة وزير الخارجية المصرية سامح شكري إسرائيل (وهي مُستنكَرة بقوة)، لكنها صفقت للاتفاق التركي ـ الإسرائيلي، بل إن حركة «حماس» أرسلت إلى اردوغان رسالة شكر غداة إعلان ذلك الاتفاق. وأبعد من ذلك، فإن «الإخوان المسلمين»، بمختلف واجهاتهم السياسية، لم يعلقوا على زيارة السعودي أنور عشقي إسرائيل حتى بعد مضي 72 ساعة على تلك الزيارة الخبيثة. لنتذكر كيف أجلس نائب وزير الخارجية في إسرائيل السفير التركي على مقعد واطئ، وجلس هو على مقعد عالٍ لتأكيد الفارق بين العلو والوضاعة. ومع ذلك لم يكسب اردوغان من الاتفاق الموقَّع مع إسرائيل في 27/6/2016 غير الاعتذار عبر الهاتف، والأسف في بيان إعلامي، و20 مليون دولار لتعويض ضحايا سفينة مرمرة، ومُنح مكانة وسيط بين إسرائيل و «حماس». وها هو اردوغان المتحالف مع السعودية يذهب بعيداً في تطبيع علاقات بلاده بإسرائيل، وعلى خطاه تسير السعودية في هذا السياق حذو النعل للنعل من دون أي حياء أو خجل، كأنهم مثل عين السمكة ليس لها جفن ليرف.

الإسلام الأميركي الجديد
صنّفت الولايات المتحدة الأميركية في عهد باراك أوباما، وربما قبل ذلك بقليل، المسلمين الناشطين إلى ثلاث فئات: الإسلام الحكومي كما يتجسد في السعودية وفي السودان في مرحلة تحالف الترابي ـ البشير، وهو متآكل ومتقادم ولا يرجى منه أي مكسب على المدى المتوسط. والإسلام الشعبي، وهو إسلام متغيِّر وغوغائي ينحو نحو السلفية والإرهاب والتعصب. والإسلام السياسي مثل «الإخوان المسلمين» بنُسَخِهم المتعددة كحزب «العدالة والتنمية» في تركيا. وبتأثير من روبرت مالي (وهو يهودي مصري من مجموعة الأزمات الدولية) ومن دنيس روس (وهو يهودي أسترالي كان منسق المفاوضات في الشرق الأوسط)، اختارت الولايات المتحدة التعاون مع الإسلام السياسي من طراز «الإخوان المسلمين»، ورأت أن هذا الضرب من الإسلام يمكنه الانضمام إلى المؤسسات السياسية في بلاده، وأن احتواءه في داخل السلطة أفضل للغرب من البقاء خارجها. وجاء في تقرير معهد هيودسون المقرب من البنتاغون في 15/8/2011، والذي وقعه رئيس المعهد هيربرت لندن أن الولايات المتحدة تسعى إلى وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في البلدان التي تشهد حركة احتجاجات واسعة. ويضيف التقرير أن الولايات المتحدة اتفقت مع «الإخوان» في سوريا لتسهيل تسلمهم السلطة بدعم من تركيا. ولم تنفِ الولايات المتحدة صحة المعلومات في ذلك التقرير، ولم تكذب جماعة «الإخوان المسلمين» ما ورد فيه. والمعروف أن بريطانيا حاربت القومية العربية بـ «الإخوان المسلمين» و «حزب التحرير». وكانت لندن وواشنطن القاعدتين الأبرز ليس للإسلاميين المعادين للديموقراطية فحسب، بل للإرهابيين أيضاً من عيار عمر عبد الرحمن المصري وأبو حمزة المصري وأبو بكري فستق السوري وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم، وصار إسم لندن، في إحدى الحقب «لندستان»، ولم تتورع بريطانيا عن الاتصال بالإسلام المتطرف منذ العام 1990 فصاعداً لمناهضة القذافي وصدام حسين وميلوسيفيتش، وسهلت سفر المقاتلين الإسلاميين إلى كوسوفو وغيرها.
اجتهدت مجموعات الإسلام السياسي في التكيف مع لغة الأميركيين والأوروبيين في شأن الديموقراطية والعلمانية، واحتالت على اللغة العربية لتروِّج قبولها بـ «الدولة المدنية» بدلاً من الإقرار بصراحة بـ «الدولة العلمانية»، وكان آخر تلك الاحتيالات قصة حركة «النهضة» في تونس و «الفصل بين الدعوي والسياسي»، وهذا احتيال كلامي مكشوف لا يشير البتة إلى تبني العلمانية التي باتت تعني، بحسب رأيي، في الأحوال العربية المدمِّرة، لا فصل الدين عن الدولة، بل إخضاع الدين للدولة المعاصرة التي تتأسس على المواطنة المتساوية والديموقراطية وقيم الحرية.
هل إن دولة اردوغان التي يعيد اليوم تأسيسها تتجه في هذا السبيل؟ بالتأكيد لا. لكن اردوغان ربما ينجح في إنهاء قدرة الجيش على التدخل في الحياة السياسية التركية. وعند ذلك سيصبح المجتمع المدني (الأحزاب والنقابات والصحافة والنوادي والجامعات) هو الميدان الرئيس للمعارضة التي ستختبر قوتها مراراً في الانتخابات. لكن أي انتخابات في النظم الرئاسية القمعية مثل نظام اردوغان ستكون مشوبة بالريبة دائماً، لا سيما أن ثمة آليات انتخابية معروفة وغير مكشوفة تسمح للسلطة الحاكمة بالتأثير في قرارات الناخبين. وفي ما لو حالت السلطة الحاكمة القهرية دون الديموقراطية، فإن اللجوء إلى الإرهاب سيكون أحد الاحتمالات الممكنة. ومهما تكن التوقعات، فلعل كتاب «الجفر»، وهو من الكتب القيامية الشعبوية، يصدق ولو لمرة واحدة بقوله: «أترك الترك ما تركوك، فإن أحبوك أكلوك، وإن أبغضوك قتلوك».