أميركا تتغيّر.. شاءوا أم أبوا.. بقلم: جميل مطر

أميركا تتغيّر.. شاءوا أم أبوا.. بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ٤ أغسطس ٢٠١٦

تدخل الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية مرحلة جديدة، أتوقّع أن يلجأ خلالها المرشحان ترامب وكلينتون، إلى رفع شعارات وتقديم مقترحات لسياسات بهدف «ترطيب» الأجواء السياسية، وبشكل أدقّ وأهم، «تبريد» حالة التطرف التي تسببت فيها المراحل المبكرة من الحملة الانتخابية. المرشحان، كلاهما، سوف يسعيان خلال المرحلة المقبلة، أي حتى تشرين الثاني، لكسب أصوات المتردّدين، أي الناخبين الذين لم يختاروا بعد الرئيس الذي يريدون. هؤلاء بحكم التعريف وتجارب التاريخ أبعد ما يكونون عن التطرف ويميلون بشكل عام إلى من يضمن لهم «استدامة» السياسات واستقرار الأوضاع.
اقترب يوم الانتخابات، واقترب موعد إعلان اسم الشخص الذي سوف يتولى الحكم في أهم دولة في العالم، حتى الآن على الأقل. هذه النتيجة، كيفما تكون، فلن تغير واقع التوقعات السائدة، وهو أن أميركا لن تعود، في ظل أي رئيس قادم، الدولة التي عرفناها. لقد بدأ التغيير في أميركا، وعندما نتوقع تغييراً في مكان ما، فنحن لا نتصوره في شكل معين أو استنساخاً لتجربة أسبق، إنما نتوقعه استناداً إلى مقدمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، سبقت الانتخابات الراهنة وتأكدت بها.
أقول هذا وفي ذهني أربع مجموعات من التطورات، رسمت كل مجموعة منها صورة لتغيير جوهري في موقع ما من مواقع الحياة الأميركية.

تراجع المجمع الصناعي العسكري
أولاً: تغير الكثير من عناصر التوازنات والتحالفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي هيمنت على عمليات صنع السياسة في أميركا خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي. كتب Chollet، أحد المحللين المحترمين، عن انفراط ما كان يُعرَف بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، صانع السياسات ومقررها ومنفذها في أميركا، لصالح ما صار يعرف بالمجمع الصناعي ــ الإعلامي ــ السياسي. يريد المحلل أن يبلغنا أن العسكريين كقوة عظيمة التأثير في صنع السياسة الأميركية تنازلوا لتحالف جديد أو طبقة سياسية من الإعلاميين والسياسيين حلت محلهم في قيادة العمل السياسي الأميركي. شعرت على الفور بالرضا عن الفكرة التي يطرحها السيد chollet في مقالته التي نشرتها له مجلة «ناشونال انترست» في نهاية تموز، ولكنه نوع الرضا الذي يبقى في حاجة دائمة لشواهد تدعمه حتى يستقر في الذهن قناعة نبني عليها. إلى حين ذلك، أستطيع أن اقترح توضيح المقصود بطبقة السياسيين الجدد بأنهم الجماعة الأكاديمية - السياسية التي تهيمن الآن على صناعة الفكر السياسي الأميركي، وتتدخل بصفة مؤسسية وإعلامية وشخصية في كثير من علاقات الدولة الخارجية وكذلك في بنيتها الداخلية. أستطيع أيضاً أن اقترح إضافة الطبقة المالية – المصرفية ليحمل اسم «المجمع السياسي ــ الإعلامي – المالي» بديلاً للمجمع الأشهر والمنتهية فيما يبدو صلاحيته، وأقصد «المجمع الصناعي - العسكري» الذي كشف عنه الرئيس دوايت ايزنهاور في نهاية ولايته في النصف الثاني من عقد الخمسينيات.

تَركة أوباما
ثانياً: كان يُعجبني في بعض التحليلات التي تناقش انتقال الحكم في أميركا تعبير يقارب في الشبه بين عملية الانتقال من رئيس إلى رئيس من جهة وسباقات التتابع في الركض أو السباحة، حين يسعى المتسابق إلى أن يسبق غيره من المتسابقين بهدف أوحد وهو تسليم المهمة التي كلّف بها إلى شخص آخر، ليستمرّ هذا الآخر في تنفيذها بالدقة والسرعة الواجبتين. بحثت في حقيبة الرئيس باراك أوباما التي سوف يسلّمها للمتسابق الذي يليه عن مواقف وسياسات يمكن أن يعتبرها أوباما وحزبه «مستدامة» الطابع والمحتوى، بمعنى أنها تفرض على الرئيس القادم تبنيها والتزامها. تذكّرت، وأنا أبحث في الحقيبة، أن رؤساء ما بعد الحرب العالمية الثانية حرصوا على أن يكون في حقائبهم سياسات تضمن استمرار الحصار المفروض على الاتحاد السوفياتي واستمرار تدفق المعونات إلى غرب أوروبا بهدف إنعاشها في وجه الزحف الشيوعي واستمرار دعم إسرائيل. كل من هذه المجموعات من السياسات لم يقصر رئيس من رؤساء النصف الثاني من القرن العشرين عن الالتزام بها واحترامها أياً كان الحزب المنتمي إليه.
أعود إلى حقيبة أوباما. أستكمل البحث فيها كما بحثت في حقائب أسلافه في عصر الحرب الباردة، لأجد ما يلي: جيوش أميركية في خارج البلاد أقل عدة وعدداً من أي وقت سابق، ولأجد أيضاً أميركا وقد حققت لأول مرة في تاريخها أقرب شيء ممكن إلى وضع الاستقلال في مجال الطاقة. وجدت فيها أيضاً حزمة سياسات تعكس شفافية غير مألوفة في استخدامات أسلحة القتل المباشر والدقيق مثل اغتيالات قادة الإرهاب كما حدث مع بن لادن وغيره، ومثل غارات طائرات «الدرون»، أي الطائرات من دون طيار. لا أظن أني تجاهلت أو لم ألاحظ في الحقيبة وجود سياسة أو موقف يحمل صفة الاستدامة، لها أو له أهمية تشبه أهمية السياسات الثلاث التي تركها لخليفته الصديقة هيلاري أو لخلفه الخصم دونالد، هي المهام الثلاث التي تعكس في رأيي أحد أهم جوانب التغيير الذي وقع في منظومة السياسة الخارجية والدفاعية الأميركية خلال العقود الأخيرة.

تمرّد المرشحين الرئاسيين
ثالثاً: لم يحدث على هذا النحو أو بهذه القوة أن ترشح مواطن أميركي لمنصب الرئاسة، وهو في الأصل غير منتم فعلياً أو بالولاء لحزب من الحزبين الكبيرين، «الجمهوري» و «الديموقراطي»، ثم يدخل هذا المواطن حلبة الصراع على المنصب مدفوعاً بقوة تمرد عاتية على منظومة السياسة الأميركية أو برغبة عارمة لتمرير برنامج أو مشروع تغيير إصلاحي، يشمل جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة. لا يفوتني وأنا أجمع المرشحين الاثنين ترامب وساندرز في خانة واحدة، وهي الرغبة في التغيير، أن أميّز بينهما، فالفروق شاسعة وعميقة. الاثنان متمردان على طبقة «مديري السياسة» في الحزبين، وهي طبقة تمتد من حزب إلى آخر وتستخدم الأساليب البيروقراطية نفسها وأولوية المصالح الفردية وتضع في صدارة أولوياتها مسألة تمويل الانتخابات. الإثنان قررا العمل على كسر احتكار هذه «الطبقة» داخل الحزبين، وإجبار الحزبين على أن تكون الحكومة المصدر الوحيد للتمويل، وأن لا تُعقد في السر أو وراء أبواب مغلقة مفاوضات بشأن الترشيحات أو البرنامج الانتخابي. اتفقا كذلك على ضرورة إجراء انتخابات أولية يشارك فيها جميع المرشحين بدلاً من صيغة المؤتمرات المحلية.
واقع الأمر هو أن المرشحين المتمردين، وهما بيرني ساندرز ودونالد ترامب، يدركان أنهما يتمردان ليس على قادة سياسيين حزبيين، ولكنهما في الوقت نفسه يتمردان على الآباء المؤسسين أنفسهم. هؤلاء الآباء هم الذين صاغوا المبادئ والأسس التي بنى عليها من جاء بعدهم من السياسيين قواعد العمل الحزبي وأسس الترشيح. بمعنى آخر وضعوا الشروط الواجب توافرها في مَن يترشح ومَن يحكم. لقد وضع الآباء المؤسسون النظام الذي يكفل عدم وصول «غوغائيين» إلى مشارف الحكم، وعدم الاعتماد على «أهواء الشعب»، بل العمل بكل جدّ واجتهاد لتقليل فرص أن يكون للشعب دور «مهم» في صنع السياسة وأن يخضع اختيار الحكام للطبقة السياسية نفسها وليس لعامة الشعب.
وضعوا موانع لمنع «الشعوبيين» والغوغائيين من الاقتراب من مراكز السياسية في أميركا، أوصوا مثلاً بتوسيع دائرة المنافسة بين القوى السياسية المختلفة وتشجيع أساليب التراضي والمساومة مع مراعاة تضييق فرص المشاركة الشعبية، أوصوا أيضاً بإقامة «مناطق محايدة أو آمنة» تفصل بين المواطن والحكومة.
حدث أيضاً أن تغيرت تركيبة الحزبين السكانية. نعرف أن «الحزب الديموقراطي» قام أساساً على أكتاف طبقة العمال البيض ثم تخلّى عنهم أو تخلوا هم عنه. الآن يقوم الحزب على ائتلاف أقليات. هناك مثلاً المثليون والحوامل والسود واللاتينيون وأنصار البيئة. هذه الصيغة الائتلافية جعلت «الحزب الديموقراطي»، في رأيي، أكثر مرونة وأقل تقبلاً لأفكار التطرف والتشدد، على عكس «الحزب الجمهوري».

صراع «التغيير» و«الاستقرار»
أخلص من سرد هذه التطورات إلى إعلان اقتناعي بأن السباق الجاري حالياً في الولايات المتحدة هو أقرب إلى أن يكون صراعاً بين قوى التغيير وقوى الاستدامة والاستقرار. هو بالتأكيد ليس صراعاً بين يسار ويمين بالمعنى الأيديولوجي، وإن احتوى بعض مقوّمات هذا الصراع، إنما هو صراع بين طبقة سياسية من جهة، لا لون لها في الغالب، تتمسك بامتيازاتها وبحقها التاريخي في «تحريك» القادة السياسيين والمسؤولين في دوائر الحكم، سواء من المشرعين أو التنفيذيين المنتخبين أو الحكام المحليين، وبين قطاعات واسعة متمرّدة على هذا الوضع، وعلى احتكار السلطة والنفوذ من جانب عدد محدود من الأشخاص أو العائلات أو جماعات الضغط.
اتخذ هذا الصراع أشكالاً متعددة عبر المراحل المختلفة للنظام السياسي الأميركي، إلا أنه ينفرد هذه المرة بخاصية «التدخل الشعبوي المباشر» والواسع من ناحيتين، ناحية سرعة وتتابع التغيرات الاجتماعية وتفاقم فجوات الدخول وتعدّد مطالب التخلص من نفوذ الطبقة المالية وكبار الأغنياء، وناحية القضايا السياسية المنبثقة عن استمرار تحكم الطبقة السياسية والبيروقراطية الحزبية. سمعت من يقول، وهو ليس بما يقول بعيداً تماماً عن الحقيقة، أن فوز السيد ترامب سوف يعجّل بسقوط الطبقة السياسية التي تتحكم في النظام الحاكم وما يمكن أن يتسبب فيه هذا السقوط من تداعيات هائلة. أما إذا فازت السيدة كلينتون فسوف يفسّر نجاحها بقوة صمود الطبقة السياسية وبما يعني امتداداً آخر في عمرها. الأمر لن يكون بهذه البساطة فالتعقيدات تحيط بهذا التفسير من جوانب عديدة، أهمها من وجهة نظري، حقيقة أن فوز هيلاري سوف يظل مشروطاً بالاعتراف بأن الاستقرار الذي تعد به لن يتحقق إلا بالاستجابة لمطالب السناتور برني ساندرز الاجتماعية والاقتصادية. هذه المطالب هي في الوقت نفسه مطالب قطاعات واسعة من الشباب والفئات المحرومة وفئات مثقفة، ومطالب قوى «ثورية» ما تزال خجولة ولكن تظل حريصة على ضرورة التغيير.
أعرف أن هناك في أميركا وأوروبا الغربية من يجهلون حقيقة أن قوى الاستقرار لم تعد تتمتع باللياقة اللازمة لصد أمواج التغيير، وكثيرون مثلي يعرفون أن الجهل بهذه الحقيقة أو الاستمرار في تجاهلها كلّف الإنسانية ويكلف الآن بعض الشعوب العربية تضحيات غالية.