معركة حلب: رمز للصراع الدولي ولجوهر الحرب السورية.. بقلم: محمد صالح الفتيح

معركة حلب: رمز للصراع الدولي ولجوهر الحرب السورية.. بقلم: محمد صالح الفتيح

تحليل وآراء

السبت، ١٣ أغسطس ٢٠١٦


قد يكون المُنظِّر العسكري والاستراتيجي البريطاني السير ليدل هارت من أهم المنظرين العسكريين في القرن العشرين، والذي لا تزال نظرياته قيد التطبيق في حروب اليوم. يحصل هذا أحياناً من دون قصد أو من دون دراسة متمعنة لنظريات ليدل هارت، وذلك ببساطة لأن كثيراً من نظرياته ما هي إلا مبادئ عسكرية بديهية، وإن كان هو قد صقلها، ووصف تفاصيلها، ومنحها اسماً. أحد الأمثلة هنا هو نظرية «الاقتراب غير المباشر». إذا ما أردنا تلخيص هذه النظرية، يمكننا أن نقول إنها تتلخص في استخدام مقدار كبير من المناورة وتجنب نقاط الخصم القوية والعمل على توجيه القوات لمهاجمة النقاط الضعيفة؛ أي أن القوات ستتحرك كمياه النهر أو السيل، ملتفةً ومتجنبةً الصخور الكبيرة لتعبر من الممرات الضعيفة، جارفةً الصخور الصغيرة. كان الألمان، لا البريطانيون، أول من تلقف أفكار ليدل هارت الرائدة، التي تخالف نظرية كلاوزفيتز عن «الحرب المطلقة» وضرورة تدمير العدو، التي سادت خلال الحرب العالمية الأولى والتي بقي البريطانيون أسرى لها في مطلع الحرب العالمية الثانية. أما اليوم، فلا تبدو هذه النظرية فريدة أو عبقرية بل تبدو بديهيةً للغاية، وهي بالفعل كذلك. فأي قائد عسكري يبحث عن تحقيق هدف عسكري ما سيبحث عن الطريق الأسهل، والأسرع، والأقل كلفةً لتحقيق الهدف.
بأخذ هذه التفاصيل البديهية في الحسبان، لا يسع المراقب سوى أن يستغرب المسار الذي اختاره المهاجمون لفتح طريق إلى أحياء حلب الشرقية، حيث لم يُسلَك الطريق الأسهل، والذي يتجنّب النقاط القوية المتمثلة في تجمّع المواقع العسكرية في كليتي التسليح والمدفعية، ويختار المرور من جبل المشرفة إلى محطة تحلية المياه ثم معمل اسمنت الشيخ سعيد للوصول إلى حي الشيخ سعيد في حلب الشرقية. اختيار الطريق الأصعب، الذي تكثر فيه المواقع العسكرية المحصّنة، يشير إلى أن الهدف لم يكن كسر الطوق بقدر ما كان توجيه رسالة من الأطراف الدولية الداعمة بأنهم لن يقفوا متفرّجين في معركة حلب، بل سيردّون على التصعيد بتصعيد أكبر، وحيث ما ظهر بالفعل عندما أُعلن عن نية للاستيلاء على كامل مدينة حلب.
هجوم المسلحين لم يخالف المبادئ العسكرية للجيوش التقليدية بل خالف كذلك المبادئ العسكرية لحروب العصابات، ومنها المبدآن الرئيسيان اللذان حدّدها ماو تسي تونغ في «نظرية الحرب الثورية»: الحفاظ على النفس، والانسحاب أمام تقدّم الخصم. انغمس المسلحون في جنوب غرب حلب في سلسلة من الهجمات المتتالية على نقاط محصّنة للغاية تكبّدوا فيها خسائر فادحة في الأرواح إلى حدّ أنه لم يكن من المتوقع أنهم سيستطيعون تكرار موجاتهم الهجومية وأن خسائرهم ستقود لتقويض مواقعهم القوية في إدلب نفسها. ولكن موجات الهجوم الانتحارية استمرت، بل وحصلت بعض الهجمات في الوقت نفسه الذي كان الجيش السوري يشنّ هجماته المضادة أيضاً، كما حصل مساء السبت السادس من آب، وهذا يخالف مبدأ التراجع عند تقدّم الخصم. تكرّرت الموجات الهجومية وإطلاق مراحل جديدة من العمليات برغم عدم نجاح المراحل السابقة يشير إلى حجم الضغوط على المسلحين لإنجاز خرق في تلك المنطقة.
ليس الأسلوب الانتحاري المخالف لأي منطق عسكري هو فقط ما يشير إلى حجم الإرادة الدولية. فحجم الإمدادات وتدفقها المستمر عبر الأراضي التركية هو مؤشر آخر مهم. تشارلز ليستر، الباحث في «معهد الشرق الأوسط» والمعروف بمصادره داخل الفصائل الإسلامية في سوريا، زعم أن المهاجمين لم يقوموا بتحويل القوات من إدلب إلى جبهات حلب، بل قاموا بتحويل قوات جديدة وافدة من الخارج إلى حلب مباشرةً، ما مجموعه، بحسب ليستر، 4200 مقاتل، وأن الفصائل قد تلقت تطمينات تركية وقطرية ومن غرفة «الموم» - النظير التركي لغرفة «الموك» الأردنية ـ بأن الإمدادات ستتواصل. ولا بد من التوقف هنا أيضاً عند الأنباء التي تتحدث عن مرور نحو ألف مقاتل في نحو مئة آلية من الأراضي التركية عبر أعزاز، عفرين، دارة عزة، وصولاً إلى الجبهات في جنوب غرب حلب، يوم 27 تموز. مرور التعزيزات من تركيا عبر المواقع الخاضعة لسيطرة الأكراد، «قوات سوريا الديمقراطية»، هو تطوّر مهم للغاية، ومن البديهي القول إنه ما كان يمكن أن يتم لولا الإرادة الأميركية التي تستطيع وحدها أن تمارس دور المايسترو الذي يحفظ التناغم بين اللاعبين. هذا التفصيل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تحليل الموقف التركي من سوريا والأكراد ومن طبيعة القنوات التركية الكردية، ولكن هذا موضوع آخر على أي حال.
«جبهة النصرة» التي أنجزت، على عجل، خطوة فك الارتباط بـ «القاعدة»، قبل ثلاثة أيام فقط من بدأ الهجوم على جنوب غرب حلب، كانت المشارك الرئيسي في الهجوم. لم تحشد «النصرة» فقط عدداً كبيراً من مقاتليها، الذين ظهروا وقد تسلّحوا بمعدات فردية أفضل بكثير مما كان متاحاً لهم في السابق، بل حشدت عدداً كبيراً من الدبابات والمدرعات. وبرغم عدم توفر إحصاءات دقيقة إلا أن البيانات المتداولة تحدثت عن تدمير نحو ثلاثين دبابة ومدرعة للمسلحين، خلال ستة أيام من القتال، وهذا رقم كبير للغاية، حتى في مقاييس الحرب السورية، لاسيما إذا ما علمنا أن هذه الخسائر لم توقف تقدم «جبهة النصرة» وشركائها الذين زجوا في الهجوم بأعداد إضافية من المدرعات. بالمحصلة يبدو أن الدبابات والمدرعات التي توفرت للمهاجمين تفوق، لناحية العدد، ما كان متوفراً للكتيبة 362 الإسرائيلية التي حاولت قطع طريق بيروت دمشق عند بلدة السلطان يعقوب في حزيران 1982.
يأخذ بعض المحللين تراجع مستوى الخطابات التركية والأميركية تجاه سوريا، والصمت النسبي في النصف الثاني من تموز خلال مرحلة تطويق أحياء حلب الشرقية، على أنه مؤشر على تراجع في المواقف. المؤشرات الميدانية تشير إلى العكس تماماً. الموجات الانتحارية المتكررة والزجّ بأعداد هائلة من المدرعات ونقل ألوف من المقاتلين عبر الحدود تشير إلى أن أردوغان لم يكن ليمضي للقاء بوتين، في التاسع من آب في سان بطرسبورغ، وحلفاؤه محاصرون في حلب الشرقية، بل ظهر بشكل واضح أن المطلوب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وألا يجري اللقاء والموقف التركي ضعيف. هذه التفاصيل هي جزء من طبيعة الصراع المؤسف في سوريا. الدور الخارجي لن يتراجع بسهولة ومن الصعب حسم حرب عصابات من دون إيقاف الدعم الخارجي. هذه هي بديهيات هذا النوع من الصراعات. والدور الخارجي لن ينكفئ بالسهولة التي يمني البعض نفسه بها. فقد تزامن إغلاق الجانب التركي لمعبر باب الهوى مع إعلان روسيا، بشكل مفاجئ للبعض، عن هدنة يومية مدتها ثلاث ساعات وعن إدخال مواد إغاثية إلى حلب الشرقية، إضافةً إلى إغلاق روسيا لبعض مكاتب الأحزاب الكردية في موسكو. هذه الصفقة الصغيرة هي مجرد مثال على أنه لا تنازلات مجانية وأن انتزاع أبسط المواقف من الخصوم سيتطلّب دفع ثمن مقابل، وهذا هو جوهر الحرب السورية التي لا تزال تنتظر الصفقة المناسبة.