موسكو وكييف ودقّ طبول الحرب.. بقلم: هاني شادي

موسكو وكييف ودقّ طبول الحرب.. بقلم: هاني شادي

تحليل وآراء

الجمعة، ١٩ أغسطس ٢٠١٦

بعدما توارت عن أنظار وسائل الإعلام في روسيا وخارجها، تعود الأزمة الأوكرانية ـ الروسية إلى الواجهة مجدداً على خلفية اتهام موسكو لكييف بالوقوف وراء التخطيط لعمليات تخريبية في شبه جزيرة القرم في آب الحالي. فقد أعلنت هيئة الأمن الفدرالي الروسية عن اعتقال مجموعة من «المخرّبين» في أراضي القرم، تسلّلوا عبر الحدود مع أوكرانيا للقيام بعمليات إرهابية في شبه الجزيرة، بتخطيط من الاستخبارات العسكرية الأوكرانية. علماً بأن الاشتباكات مع هذه المجموعة أسفرت عن مقتل اثنين من العسكريين الروس واعتقال أفرادها. ونقلت صحيفة «كوميرسانت» الروسية عن مصادر في الاستخبارات الروسية أن المخرّبين خططوا لتدبير سلسلة تفجيرات متوسطة القوة في مختلف المنتجعات السياحية بالقرم بغرض تخويف السياح و «تدمير قطاع السياحة». أما كييف الرسمية، فتنفي ضلوع أجهزتها الأمنية في التخطيط لمثل هذه الأعمال، بينما لا يستبعد البعض في أوكرانيا وجود مجموعات تُوصف بــ «الوطنية أو القومية» تُفكر بالقيام بمثل هذه الأعمال من أجل استعادة القرم. وتعتبر كييف أن اتهام موسكو للاستخبارات العسكرية الأوكرانية هو مجرد استفزاز لتصعيد الوضع العسكري في جنوب شرق أوكرانيا.
لم يتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الردّ على ما جرى، مؤكداً أن «بلاده لن تترك الهجمات التخريبية الأوكرانية في القرم من دون ردّ». من جانبه، لم يستبعد رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف قطع العلاقات الديبلوماسية مع كييف. فروسيا تقترب من موعد الانتخابات البرلمانية في الثامن عشر من أيلول المقبل، ولا بدّ من ردّ أولي ولو على مستوى التصريحات. بيد أن مصادر في وزارة الدفاع الروسية، بحسب وسائل إعلام روسية، تؤكد أن موسكو لا تدرس إمكانية توجيه ضربات عسكرية إلى أوكرانيا، لكنها تدرس خيارات قوية أخرى من دون الإفصاح عن تفاصيل. وتقول هذه المصادر إن مجلس الأمن القومي الروسي بحث بالفعل الوضع في القرم بعد محاولة كييف تنفيذ المخطط التخريبي، مُركزاً على اتخاذ إجراءات إضافية لتعزيز الأمن في شبه الجزيرة دون التوصل إلى توافق حول كيفية الرد.
موسكو، بالطبع، لديها خيارات عدة للرد على كييف، منها الكفّ عن «ضبط» ما تصفهم أوكرانيا بـ «الانفصاليين» في شرق أوكرانيا وترك المجال لهم للردّ على القوات الأوكرانية. كما أن روسيا يمكنها أن تقطع العلاقات الديبلوماسية مع أوكرانيا، كما لوّح ميدفيديف، وأن تُشدّد إجراءات الرقابة على الحدود، وتُزيد الدعم لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المنشقتين عملياً عن أوكرانيا، مع السماح لهما بإجراء الانتخابات البرلمانية من دون موافقة كييف. لكن هذا قد يوقف تماماً العمل باتفاقيات مينسك لتسوية الأزمة في أوكرانيا، تلك الاتفاقيات المتعثرة والعصية على التنفيذ حتى يومنا الحاضر. إن توتر الأوضاع على الحدود الروسية الأوكرانية يتجلى هذه الأيام أيضاً في الأخبار الواردة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك عن قصف أراضيهما من قبل القوات الأوكرانية ومُحاولة هذه القوات اختراق خطوطهما الدفاعية. علماً بأن الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، قد أمر بوضع القطعات العسكرية كافة على الحدود مع القرم وفي منطقة خط التماس مع دونباس في حالة التأهب القصوى.
في مثل هذه الأجواء، بدأت وسائل إعلام روسية باتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء أوكرانيا ودعمها في محاولاتها زعزعة الوضع في القرم. فصحيفة «روسيسكايا غازيتا»، لسان حال الحكومة الروسية، اتهمت واشنطن مباشرة بأنها بحاجة قُبيل الانتخابات الرئاسية إلى تصعيد الأزمة بالقرب من الحدود الروسية الأوكرانية. ولم يفُت الصحيفة الروسية التذكير بالحرب الروسية الجورجية في آب 2008، والدور الأميركي فيها. ولم يفُتها أيضاً تذكير الرئيس الأوكراني بمصير ميخائيل سآكاشفيلي، الرئيس الجورجي السابق. أما واشنطن والدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا، فتقول إن موسكو لم تُقدم أدلة دامغة على اتهاماتها في حق كييف وتُطالب الطرفين الروسي والأوكراني بتجنب التصعيد. في هذه الأثناء أيضاً، تتعالى أصوات من قبل أصحاب «الرؤوس الساخنة» في موسكو، مُطالبة بالقصاص من كييف عبر توجيه ضربات صاروخية لما تُسمّيه «معسكرات الإرهابيين الدوليين» داخل الأراضي الأوكرانية. لكن ثمة أصوات أخرى ترى أن مفهوم «الأدلة الدامغة» لم يعد له وجود في العالم اليوم حيث يطرح كل طرف من طرفي أو أطراف النزاع رؤيته لمثل هذه الأحداث ويعتبرها بمثابة الدليل الدامغ. ويعتقد هؤلاء، ومنهم فيودور لوكيانوف رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية»، أن «الروايتين الروسية والأوكرانية لما جرى في القرم متباينتان تماماً، وأن الغرب يرى أن الرؤية الروسية تشوبها نقاط ضعف كثيرة ولا يستبعد أيضاً أن ما تطرحه موسكو من أدلة واعترافات للمجموعة التخريبية المُعتقلة لديها قد تم الحصول عليه بعد التنكيل بأفراد هذه المجموعة». لكن واشنطن والعواصم الأوروبية، بحسب لوكيانوف، تبدو كذلك على علم بأن الرواية الأوكرانية غير دقيقة تماماً، ولذلك تدعو الطرفين إلى عدم تصعيد الأزمة. ويعتبر لوكيانوف أن واشنطن بهذا الموقف تُعبر، بدرجة مُخففة، عن تأييدها لموقف أوكرانيا في هذه القضية.
إن السؤال اليوم في موسكو، على الأقل كما يُطرح في وسائل إعلام روسية، يدور حول ما إذا كانت روسيا ستُوجه بالفعل ضربات عسكرية إلى كييف، أو أنها ستختار ردوداً أخرى أقل حدة. فتكلفة الخيار العسكري ربما تكون كبيرة، وتتعلق بالقدرة على القيام بعمليات عسكرية على جبهتين في آن واحد، مع الأخذ بالحسبان العمليات في سوريا. كما أن مثل هذه العمليات ضد كييف ستُعقد علاقات روسيا أكثر مع الغرب في ضوء العقوبات المفروضة عليها بسبب أوكرانيا تحديداً. ولذلك نعتقد أن موسكو، في غالب الظنّ، ستختار رداً يُجنبها مثل هذه التكلُفة.