من «همدان» إلى «حلب».. بقلم: فراس عزيز ديب

من «همدان» إلى «حلب».. بقلم: فراس عزيز ديب

تحليل وآراء

الأحد، ٢١ أغسطس ٢٠١٦

لا يمكننا الجزم أن هناك قضايا ليست عادلة بالمطلق، لكنّ هناك من اختصروا القضية بطموحاتهم الشخصية وخياراتهم التائهة، فأساؤوا لأنفسهم وأساؤوا للقضية قبل أن يفكر الآخر أساساً بالتصويب تجاه قضيتهم، فالتقاتل والتناحر بين بعض الفصائل الفلسطينية مثلاً أساء لها بقدر لا يقل عن الإساءة الممنهجة في الدعاية الصهيونية. الأمر ذاته ينطبق على من يظنون أنفسهم قد ورثوا «القضية» عن «آبو» وهو لقب زعيم حزب العمال الكردستاني «عبد اللـه أوجلان».
على طريقة إرهابيي فرع تنظيم القاعدة في سورية «النصرة» و«داعش»، وعلى وقع ما تشهده الساحة السورية من تداخلات وتعقيدات دولية وإقليمية، تحرّك الجناح العسكري لـ«حزب العمال الكردستاني» لإكمال المشروع الموعود «إسرائيل الشمال» في سورية. مما لا شكّ فيه أن الهدف ليس بجديد، لكن الإسراع في محاولة الإطباق على مدينة الحسكة بالتوازي مع السيطرة على «منبج»، يثبت أن الأميركي ومن خلال قراره النهائي بترك النيران مشتعلة في سورية لا يستعجل الخواتيم في الشأن الكردي فحسب، لكنه كذلك الأمر يوجه رسائل في اتجاهات شتى، فهل هي العاصفة التي تلت الصمت الأميركي عن التقارب الإيراني- الروسي- التركي والتي قلنا إنها آتية، أم هي كما يسمونها «صحوة الموت»؟
منذ هجوم الناتو على ليبيا وصولاً للحرب على سورية واليمن، فإن ما يميز الفعل الأميركي أنه يضطر لحرق المراحل، فينتقل من مرحلة إلى التالية حتى من دون إنجاز المرحلة التي قبلها، هذا الكلام كان واضحاً منذ سنوات مع وعود «رحيل الأسد خلال أشهر». إن حرق المراحل في سورية لم يكن ناتجاً عن الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري والحلفاء فحسب، لكنه ناتج عن تطورات إقليمية تبدو مفاجئة، فليس صحيحاً أن الولايات المتحدة تضمن نتائج خطواتها كما يروّج لها أصحاب نظرية «أن الولايات المتحدة قدر لا مفر منه»، هي تسير في خيار وعليك إفشال هذا الخيار لتجبرها على الانكفاء.
إن الضوء الأخضر الأميركي للانفصاليين الأكراد للإطباق على مدينة الحسكة، لم يكن الهدف منه رسالةً مبطّنة لأردوغان قبل زيارته لطهران وما حكي عن زيارة «سرية» قام بها وزير خارجيته، لكنها بذات الوقت أرادت أن تكون ورقةً بيد «جو بايدن» قبل زيارته المرتقبة لتركيا ولقائه الرئيس التركي «أردوغان»، وبمعنى آخر:
على «أردوغان» أن يفهم أن إغلاق الروس لمقر حزب كردي انفصالي في موسكو لا يعني زوال القلق التركي من الخطر الكردي، وزوال هذا الخطر ليس له إلا عراب واحد هي الولايات المتحدة، وعلى «أردوغان» العودة إلى بيت الطاعة قبل فوات الأوان.
لكن في ذات الوقت لا أحد يعلم ما الذي سيحمله «بايدن» من مكتسبات في هذا البازار الذي افتتحه النظام التركي، تحديداً إن نظام «العدالة والتنمية» يرى أن الأميركيين قد خدعوه بقضية «منبج»، وعبور ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية» نهر الفرات، فـ«أردوغان» الذي عارض الأمر يومها عاد وقبل به من منطلق أن قوام هذه الميليشيا ليس من الأكراد، غير أن الوقائع أثبتت عكس ذلك، فالانفصاليون الأكراد تورطوا بعمليات تطهير عرقي في الشمال السوري، حتى ما يجري في «منبج» من حرق لمقارّ حكومية لضياع السجلات المدنية والعقارية هو جزء لا يتجزأ من عملية التطهير تلك، وما يجري في الحسكة ليس منفصلاً عن ذلك بما فيها العمليات الإرهابية التي كانت تضرب بعض الأحياء في «القامشلي»، هل يريدوننا أن نصدق أنها جميعاً من إنتاج «داعش»، أم هي دفع بالسكان الأصليين للهروب؟!
إذا افترضنا أن لا جديد تقدمه الإدارة الأميركية للنظام التركي، باستثناء بعض الضمانات بأن حل المسألة الكردية سيكون بالاستفادة من الفوضى السورية ولن يكون على حساب الأراضي التركية، فهل يمكننا القول إن زيارة «بايدن» قد تكون نوعاً من المباركة للتقارب الإيراني- الروسي- التركي، من مبدأ أنها الوسيلة الوحيدة لإنزال الجميع عن الشجرة وإطفاء الرؤوس الحامية؟
إن ما يجري في الحسكة يكذّب تماماً هذه الفرضية، قبل أن يغدق علينا البعض بنصوصه التفاؤلية؛ فالشمال السوري من وجهة النظر الأميركية هو المكسب الأهم في الحرب، بل إنها قد لا تراه مكسباً أميركياً فحسب، لكنه قد يكون مكسباً «ناتوياً» أيضاً، والوقائع تثبت ذلك:
إن البيان الأميركي الملتبس يؤكد أن الطلعات الجوية في الشمال السوري هدفها حماية المستشارين الغربيين العاملين مع الميليشيات التي تقول الولايات المتحدة إنها تحارب «داعش»، وهذا يعني ضمنياً حماية لهذه الميليشيات أيضاً. هنا نعود ونتذكر في الأساس ومنذ مسرحية معركة «عين العرب» كيف كان تنظيم «داعش» يتمدد كما هو مرسوم بالميليمتر، هذا التقدم كان يومها هدفه وراثة الأرض من هذه الميليشيات وهو ما جرى بدقة، حتى إن الولايات المتحدة لم تستطع أن تجيب على تساؤلات منطقية، لماذا لم يتم قصف قوافل «داعش» الهاربة من «منبج»، هل يريدوننا أن نصدق كذبة «الدروع المدنية»! وبمعنى آخر: إلى أين اتجهت هذه القوافل؛ هل اتجهت للمناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري فكان هجوم «كويرس» هو نقطة البداية؟
النقطة الثانية، إن أي محاولة لمنع الطيران السوري من التحليق في هذه المناطق لضرب التنظيمات الإرهابية التي تهاجم المناطق الآمنة والمدنيين بحجة أن مهاجمتها يعني خدمة لـ«داعش»، معناه أن الأطلسي وبطريقة غير مباشرة فرض منطقة حظر طيران في دولة ذات سيادة، وخارج نطاق مجلس الأمن الدولي، فكيف سيكون الرد؟
كان بيان القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة واضحاً ومتقناً، فلقد أحسنوا بتوصيف أساس المشكلة، وهو الجناح العسكري لـ«حزب العمال الكردستاني»، المصنف أساساً كتنظيم إرهابي. النقطة الثانية؛ هناك فرق بين ما يطلبه أو يريده أي مكوّن من مكونات المجتمع السوري؛ وما يطلبه المرتزقة من أي مكون من مكونات هذا المجتمع، فالمرتزق بالنهاية لا يمثّل مصلحة من يدعي الدفاع عنهم هو يمثل من يستعمله لا أكثر. النقطة الأخيرة أن البيان هو الأول من نوعه بما يتعلق للعلاقة بين المسلحين الأكراد والقيادة العسكرية، فإذا كانت هذه الميليشيات انقلبت على كل التفاهمات السابقة، فهل سيمتد هذا الأمر ليشمل كلاً من «عفرين» و«الشيخ مقصود» مثلاً. إن إصدار هذا البيان قد يقودنا لفرضية أن القيادة السورية منتبهة لخطورة ما يجري في الحسكة، تحديداً أن أبناء المنطقة الذين نتحدث إليهم يؤكدون أن معظم من يسيطر على القرار في الميليشيا العسكرية هم «ميليشيا البرزاني» وكرد أتراك، وهذا الأمر حدث منذ دخول قوات البشمركة عبر تركيا إلى «عين العرب»، فماذا ينتظرنا؟
من المفيد انتظار ما ستؤول إليه المباحثات التركية- الإيرانية والتركية- الأميركية، لكن نتائجها ليست كل شيء، فالميدان أقوى من السياسة، لأن الثانية نتيجة للأولى وليس العكس. إن ما يجري في الشمال السوري هو معركة فرض إرادات نهائية، فإما تمرر الولايات المتحدة فرض منطقة حظر طيران ويصبح الكيان الانفصالي حقيقة قائمة، أو أن رسائل «همدان» الروسية من الأجواء الإيرانية هي أكثر تعقيداً مما كتب عنها، وعليه متى سيتعظ كل من يظن أن الأميركي سيتمكن من الوصول به حتى تحقيق حلمه الانفصالي، متى سيعود هؤلاء لأحجامهم والكف عن النظر لأنفسهم كلاعبين إقليميين في جغرافية سياسية معقدة وهم في الحقيقة ليسوا أكثر من مجرد أوراق على موائد التفاوض، ألم ينظر هؤلاء لما يجري لـ«آل سعود» الآن في اليمن وقد سحب الأميركي حتى مستشاريه؟ ربما لن ينظروا فمن كان أعمى القلب لن يبصر.
واهم من يظن أن السوريين قدموا الشهداء ليأتي من يحدثنا عن مشاريعه وحقوقه التاريخية، وكأننا نحن كسوريين طارئين في هذا الوطن. لكل من يدّعي أن لديه حقوقاً ومطالب وقضية عادلة، تعال لنناقش عدالة قضيتك كسوريين، ونرى على ماذا نتفق، لكن لا تسئ لقضيتك باختصار حلها باقتطاع أجزاء من وطن تعمد بدماء الشهداء فالنتيجة واحدة… قطع يدك أسهل.