أميركا في البلقان.. رسائل إلى تركيا بعد روسيا؟

أميركا في البلقان.. رسائل إلى تركيا بعد روسيا؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٣ أغسطس ٢٠١٦

 اعتادت الإدارات الأميركية المتعاقبة على استخدام دول البلقان كصندوق بريد يوصل الرسائل المتتالية إلى روسيا، عند كل مرحلة مفصلية من مراحل العلاقة المتأرجحة بين موسكو وواشنطن. هذه المرّة، فرضت التطوّرات المتسارعة على واشنطن أن تلجأ إلى البلقان مرّة أخرى، لكن لتوجيه رسالة إلى أنقرة أيضاً، بعدما لمست "لهجة عدائية مقلقة ومتصاعدة" لدى المسؤولين الأتراك تجاه نظرائهم الأميركيين، على خلفية الحرب السورية وما تلاها من تداعيات ضربت تركيا التي تشكّل منطقة البلقان امتداداً جغرافياً لها في القارة الأوربية.

يستعد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، لاستقبال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي سيحطّ في أنقرة في 24 آب الجاري. يعرف أردوغان أن زيارة بايدن، بوصفها الأولى لأرفع مسؤول أميركي إلى تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، ستحدّد الكثير من هوامش السياسة الانفتاحية التركية صوب إيران وروسيا. ويعرف أيضاً أن المسؤول الأميركي الضليع في هندسة سياسة بلاده الخارجية، قادم من جولة في البلقان قادته إلى صربيا والبوسنة وكوسوفو، لم يكن الهدف منها فقط تدشين طريق في كوسوفو  تحمل اسم ابنه الراحل بو، بل أيضاً إيداع الكثير من الرسائل إلى مَن يهمّهم الأمر في موسكو وأنقرة على السواء. تحت وطأة التلميح الأميركي إلى إمكانية اعتماد البلقان بوصفها الحديقة الخلفية، بديلاً لتركيا في الإستراتيجية الأميركية، سيناقش أردوغان الخطوات الكثيرة التي اتخذها أخيراً، وسيستعرض بايدن مسألة اتهام الداعية فتح الله غولن، والمطالب التركية بتسلّمه من واشنطن.

بالطبع، لن تكون علاقة تركيا بالناتو غائبة عن لقاء بايدن – أردوغان، تماماً كما ان توسّع الناتو على حساب روسيا لم يكن غائباً عن أهداف زيارة بايدن الثلاثية إلى البلقان. غير أن تحرّك الأميركيين في  البلقان ملفت في توقيته. فهو أتى في وقت تستعر فيه الجبهات في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد التغيّر الجذري الذي شهدته الجبهة السورية. فقد فتحت إيران، وللمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإسلامية، قاعدة همدان الجوية  أمام الطائرات الاستراتيجية الروسية لضرب أهداف للمسلحين في سوريا، واشتبك الجيش السوري للمرّة الأولى أيضاً مع الأكراد في الحسكة، وبدأ ظهور الإشارات على تكوّن تكتّل كردي يجمع الأسايش مع قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أميركياً، بالتزامن مع إعلان البنتاغون إرسال طائرات لمساعدة القوات الكردية في المواجهة المستجدة مع الجيش السوري.

هذه التطوّرات التي تزامنت، أو أعقبت، زيارة بايدن إلى البلقان، تُقلق تركيا. فالأتراك اطّلعوا جيداً على مباحثات نائب الرئيس الأميركي في صربيا خصوصاً. تنبع أهمية صربيا بالنسبة إلى الروس تحديداً، من كونها ترفض إلى اليوم، الانضمام إلى العقوبات الغربية ضدّ موسكو، فضلاً عن عدم سيرها في الركب الأميركي بشكل مُطلَق. هناك في صربيا، سمع بايدن من الرئيس بوريس تاديتش، رفضاً متجدّداً للاعتراف باستقلال كوسوفو التي كانت جزءاً من بلاده حتى 17 تشرين الثاني 2008، يوم شجّعتها الولايات المتحدة على الانفصال، وسارعت إلى الاعتراف بها مع غالبية أعضاء الاتحاد الأوروبي.

في الشهر الماضي فقط، نقلت السلطات الأميركية اثنين من سجناء معتقل غوانتانامو العسكري إلى صربيا، هما اليمني منصور أحمد سعد والطاجيكي محمد دولتوف. يومها، شكَرَ وزير الخارجية الأميركي جون كيري لصربيا "المساعدة السخية" و"المبادرة الإنسانية الكبيرة". أظهرت واشنطن الكثير من الامتنان لصربيا على مساعدتها في إغلاق منشأة غوانتنامو سيئة الصيت، تحقيقاً لوعود الرئيس باراك أوباما. لكن الروس ومعهم الأتراك سيتوقفون كثيراً عند نزول سعد ودولتوف بالقرب من كوسوفو، خصوصاً بعد التقارير التي كشفت عن تحوّل هذه الدولة الوليدة إلى "مصنع لتجنيد المتشدّدين والإرهابيين نتيجة لنفوذ وأموال عربية في بالإضافة إلى تواطؤ أميركي"، بحسب صحيفة "نيويوك تايمز".

تنامي الإرهاب في بعض دول البلقان وتحوّلها إلى قواعد "إعداد وتأهيل" للمسلّحين، هو آخر ما ينقص روسيا التي عانت من الإرهاب القادم من القوقاز منذ مرحلة انفراط عقد الاتحاد السوفييتي وقيام الدولة الروسية الفيدرالية وما تلاها. هذه الإشارات تُقلق تركيا التي تعيش في طور التحوّل، وهي التي لعبت في الأزمة السورية دور القاعدة الخلفية للمسلّحين على مختلف توجّهاتهم العقائدية. القلق الروسي التركي المشترك ليس منصبّاً على جهودهما المعلنة لتسوية الأزمة السورية، بل على تحوّل مسار الإرهاب إلى أراضيهما فيما لو تأزّمت "المواجهة بين الكبار"، والتي كسرت حتى اليوم الكثير من الخطوط الحمر التاريخية.

كل ما ورد يتّسق مع ما دأبت الاستخبارات الأميركية نشره تباعاً. قبل أقلّ من عام مثلاً، نقلت صحيفة "واشنطن تايمز" الأميركية عن مسؤول دبلوماسي كبير، لم تذكر هويته،  قوله إن تنظيم "داعش" يسعى إلى التسلّل إلى منطقة البلقان وإثارة عدم الاستقرار في المنطقة. كشف هذا المسؤول يومها أن أجهزة الاستخبارات في كرواتيا رصدت قيام أحد قادة تنظيم "داعش" والموجود في البوسنة، بتنظيم صفوف عدد من العناصر المقاتلة العائدة إلى البلقان في سوريا.

معركة النفوذ على البلقان بين الولايات المتحدة وروسيا، أدّت إلى تفتيت يوغسلافيا إلى دول، ضمّت أميركا معظمها إلى نفوذها. حتى جمهورية الجبل الأسود دُعيت للانضمام إلى الناتو في سبيل استفزاز روسيا. صحيح أن معركة النفوذ هذه متعدّدة الأهداف، ويقع الهدف الاقتصادي - التجاري في صلبها، إلا أن التوجّه الأميركي مجدّداً إلى هذه المنطقة في هذا التوقيت بالذات يرسم أكثر من علامة استفهام حول الأهداف الأميركية المبتغاة، خصوصاً  مع تتالي الإشارات وتواليها حول بقاء ورقة الإرهاب صالحة للاستخدام، بعد الشرق الأوسط، في أكثر من بقعة جغرافية على الكوكب.

العهد