بين «فودكا» لافروف و«بيتزا» كيري: عندما يُولد الاتفاق ثَمِلاً..بقلم: فراس عزيز ديب

بين «فودكا» لافروف و«بيتزا» كيري: عندما يُولد الاتفاق ثَمِلاً..بقلم: فراس عزيز ديب

تحليل وآراء

الأحد، ١١ سبتمبر ٢٠١٦

في مجتمعاتنا الشرقية، عندما تَطلب حاجةً ما من أحد ويجيبكَ بعبارة (إن شاء اللـه)، فإنه ينتابكَ إحساس داخلي أن الحاجة لن تُلبّى، بالمطلق أن إجابته صادقة، لكن من منّا يعلم ما يخبئه القدر؟.
في السياسة وتحديداً الأميركية، فإنها تضج بالتعابير والعبارات التي ما إن قيلت، حتى ينتابك شعور أن كل ما يقوله الأميركيون لا يعدو كونه مجرَّدَ «تأدية واجب» أو حديثاً في الهواء. هم يعلمونَ أنهم لا يعلنون الحقيقة، لكنهم حوّلوا ذلك إلى «فَنٍ»، لأنهم ببساطةٍ لا يسيطرون على الكثير من الوقائع فحسب، بل يديرونها من دونَ مقوماتٍ أخلاقية مطلوبة.
قبل أمس، تبلغنا أن المفاوضات الماراثونية بين وزيري خارجية كل من روسيا والولايات المتحدة تجاوزت عنق الزجاجة، وأن الدخان الأبيض تصاعد أخيراً في جنيف، وأن الطرفين توصلا لاتفاقٍ يُنهي المأساة السورية، لكن وكالعادة عندما سمعنا كلام الرجلين بعد إعلانهما التوصل إلى «اتفاق»، بدا لنا إعلان «لافروف» عن تقديمه «البيتزا» و«الفودكا» للصحفيين حتى انتهاء الوفد الأميركي من مشاوراته مع قيادته في واشنطن، أهم من بنود الاتفاق ذاته.
في الإطار العام يمكننا القول إن ما تمّ التوصل إليه هو اتفاقٌ «غير مباشر» بين القيادة السورية والإدارة الأميركية برعايةٍ روسية، ما يؤكد هذا الكلام أن يعلن «لافروف» ومن ثم يعود «كيري» ليؤكد كلامه بأن القيادة السورية على علمٍ كاملٍ بمجريات المفاوضات وتفاصيل بنود الاتفاق، وهي موافقةٌ عليه، ربما أننا لا نستغرب هذا الأمر لكنها فرصةٌ لتذكيرِ البعض بأن الروسي لا يفاوض على ما يريده، بل على ما تريده القيادة السورية وفق رؤيتها.
لكن ومن بابِ الواقعية، فإن معرفةَ القيادةِ السورية بمسار المفاوضات وقبولها بنود الاتفاق، لا تَعني بأي حالٍ من الأحوال أن السوريين استسلموا لفرضية الالتزام الأميركي بتطبيقِ بنود هذا الاتفاق. إن الموافقة السورية على بنود الاتفاق تبدو تطبيقاً للمثل الشعبي: (إلحق الكذاب لورا الباب)، تحديداً أن القيادة السورية لم توفر جهداً يوماً ما في سبيل وقف ما يجري، لكن هل يريدوننا أن نصدِّق أن الأميركيين بذلوا جهوداً لوقفِ داعمي الإرهاب ومموليه؟ أم إن «كيري» يريدنا أن نجهش بالبكاء عندما يحدثنا عن «التنازلات المهمة» التي قدمها «أوباما» لتخفيفِ معاناة الشعب السوري؛ ما هذه التنازلات يا تُرى إذا كان الدم السوري في كل الأحوال هو الضحية، هذه عينةٌ من اللعب على الألفاظ الذي يجيده الأميركيون، لكن ما الجديد الذي يحمله هذا الاتفاق؟
في الإطار العام، لا يبدو الاتفاق يحمِل أي جديد، كل البنود كانت مادةً دسمة للصحافة العالمية خلال فترة المفاوضات، فالسعي الأميركي لإنقاذ إرهابيي الأحياء الشرقية في حلب من خيارَي الموت أو «الباص الأخضر» لم يتبدًّل، وهم إن نجحوا نوعاً ما بانتزاعِ إعادة فتح معبر «الكاستيلو» للأغراض الإنسانية، لكن هذا الأمر لا يعتبَر نصراً أميركياً، تحديداً أن من مَنع دخول المساعدات الإنسانية قبل ذلك هم المجموعات الإرهابية، وليس الجيش العربي السوري، وهذا الأمر وثَّقَهُ الروس خلال المفاوضات.
أما تشكيل مركزٍ مشترك لفصلِ المعارضة «المعتدلة» عن الإرهابية تمهيداً لتوحيد عمليات القصف بين الجانبين الروسي والأميركي، مع تحييد الطيران السوري عن بعض المناطق كي لا يبدو الأمر خرقاً للهدنة المنتظرة، فهو أمرٌ صعب التطبيق على أرضِ الواقع، ما دام الجانبان الروسي والأميركي يرهنان هذا الأمر بمشاركةِ دول الإقليم في تحديدِ هويةِ الجماعاتِ الإرهابية، حتى الأميركي كان يدافع عن «النصرة» ويحميها لكنهُ وضعَ رأسها على طاولةِ المفاوضات مقابل تراجعاتٍ على الأرض للجيش العربي السوري في حلب، لم ينجح فيها إلا في معبر الكاستيلو وللاحتياجات الإنسانية. هو لا يجِد مشكلةً أبداً بمبادلة «النصرة» بحلب ما دام لا يقامر بحليفٍ معلن، فماذا عن باقي الفصائل الإرهابية بما فيها «جيش الفتح» الذي تشكِّل «النصرة» نسبته الأكبر، هل سيكون محمياً بغطاء «الاعتدال» أم عدواً بذريعة «النصرة»؟!
الأمر الأخير أن هذا الاتفاق تجاهلَ الحديث عن المرجعياتِ الأساسية للحلِّ السياسي بعد عودة وفد الحكومة ووفود المعارضات السورية لطاولة المفاوضات، هنا يمكننا القول إننا أمام احتمالين:
الأول: إن الاتفاق قد تمَّ على مراحلِ الحل السياسي، لكن الأميركيين تعمدوا عدم الإسهاب في الحديث عنها لعدمِ استفزازِ حلفائِهم، لأنه فيما يبدو بعيداً عن طموحاتهم برؤية الحل السياسي «دون الأسد».
الثاني: إن الطرفين لم يتوصلا لأي شيءٍ في الحل السياسي، وهما تركا الأمر مفتوحاً حتى تثبيتِ الهدنة، ومن ثم وقف إطلاق النار والجلوس على طاولةِ المفاوضات، ولأن الأميركيين يدركون تماماً أن هذه المراحل لن تتم وفّروا على أنفسهم عناءَ المفاوضات حول الحل السياسي؛ فهل يعني هذا أن الاتفاق سيفشل؟
عندما يقول «كيري»: إن التعاون الروسي الأميركي بقصف مواقع «النصرة» و«داعش» مرهونٌ بتثبيتِ الهدنة لمدةِ أسبوع، فلأنهُ يدرك تماماً أن الهدنة لن تصمد، ليس لأنه لا يمون على جميعِ الفصائِل على الأرض بل لأنه لا يبدو حتى الآن في وضعٍ يريدُ فيه أن يتراجع. كذلك الأمر، عندما يعترف «لافروف» أن هناكَ من سعى لتعطيلِ هذا التفاهم من دون أن يسميهم، عندها علينا أن نسأل ببساطةٍ: وكيف لهم أن يضمنوا أن هؤلاء ذاتهم لن يعطّلوا الهدنة، التي يبدو تثبيتها أساساً لكل ما يأتي بعدها؟!
إن الحكومة السورية إذ تتعاطى من منظورِ الدولة، هناك بالتأكيدِ إثباتات لالتزامها، لكن من سيضمن الطرف المقابل؛ بالتأكيد لا أحد، عندها سنعود لفرضيةِ أن الأميركي سيُحمِّل المسؤولية للحكومة السورية وبالتالي سيعود للتملص من كل ما تم التوصل إليه إن كان اتفاقاً أو هدنة أو إطاراً، سموها ما شئتم.
إنها لعبةُ كسبِ الوقت التي أجادَها الأميركي وهو حالياً يُتابع وبهدوء ما بدأه في الشمال. عندما قلنا إن الشمال السوري بات بالنسبة للأميركي هدفاً ناتوياً وليس أميركياً فقط، ظنَ البعض أنها مبالغة، لكن الأمر لا يبدو مبالغة، لأننا لم نعتَد أن نسكَرَ بخمرِ التحليلاتِ التخديرية؛ المبالغة هي الظنّ أن الأميركي سيتراجع أو سينسحب مالم يخسر، وهو بدلَ أن يخسر تراهُ لا يدعم -كما الناتو- الاحتلال التركي لبعض المناطق في الشمال السوري فحسب، بل يدعو الأتراك لعملياتٍ مشتركة في الرقة، ممهورةٍ بختمِ «مصالحةِ الضرورة» مع الميليشيات الكردية بما فيها «قسد» التي لا يزال البعض يظنها ميليشيا ذات أغلبية «عربية». هذه الدعوات لاقاها الجانب التركي بصدرٍ رحب، فهل انتهى مفعول مسرحية «العلاقات المتوترة» بين تركيا والولايات المتحدة بعد قصة الانقلاب التركي؟! ربما هو كذلك، وربما أن البيان الروسي حول الاحتلال التركي لبعض مناطق الشمال السوري وإن جاءَ بشكلٍ متأخر، فربما لأنهم أدركوا اللعبة المزدوجة التي يلعبها «أردوغان»، وسيستمر بها هو وغيرِه من الفاعلين على الساحةِ السورية بالضرب على أي محاولةِ إنهاء ما يجري، فماذا ينتظرنا؟
الإرهابيون في حلب باتوا محاصرين، حتى الممر الإنساني لا يمكن البناء عليه كثيراً إذا كان الروس شركاء في المراقبة، والهدنة بوضعها الحالي لا يبدو أنهم سيتركونها تصمد، وبمعنى آخر فإن الاتفاق ولّد ثملاً، وهو يترنح تحت وطأةِ الغموض من جهةٍ، وعدم المصداقية عند الطرف الآخر والتي أثبتتها التجارب السابقة من جهةٍ ثانية، وعليه لن يطول الوقت حتى يسقط، فهل علينا أن ننتظر بعدها جولةً جديدةً من مفاوضات «كيري- لافروف»؟ ربما لا.. فليس الأميركيون وحدهم من يتقنون لعبة الوقت، تحديداً إذا كانت الإدارة الأميركية قاب قوسين أو أدنى من الرحيل. بالتالي لن نسمح لأحد بإعادتنا إلى المربع الأول في الحرب على الإرهاب وبسط سلطة الدولة الشرعية على كاملِ التراب السوري. من الآن وحتى يتوضح الخيط الأسود من الأبيض، فإننا واثقون أننا إذا ما سألنا شجعان هذا العصر من قوات الجيش العربي السوري والقوى الرديفة والحلفاء: هل سيكون هذا الاتفاق قابلاً للحياة.. سيكون جوابهم حُكمَاً.. إن شاء اللـه.