عودة إلى ما قبل العام 2005.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

عودة إلى ما قبل العام 2005.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٥ أكتوبر ٢٠١٦

ها هي حكومة المهندس عماد خميس تقترب من إتمام شهرها الثالث في تسلم مهامها 3/7/2016 وهي من دون شك تضطلع بدور هو الأهم مما يمكن أن تكون قد اضطلعت به أية حكومة سورية سابقة ولربما منذ الاستقلال السوري 1946 إلى الآن، وهو أمر طبيعي قياساً إلى التحديات التي دخلت مرحلة جديدة عبر عنها الرئيس الأسد بقوله مؤخراً إن خطر الحرب الاقتصادية يفوق خطر الإرهابيين هناك الكثير من الأثقال الملقاة على عاتق الحكومة السورية الحالية إلا أن الثقل الأساسي يتمثل في السياسة الاقتصادية التي يمكن أن تتبعها، فحول تلك السياسة ستتمحور قضايا عديدة تصل في مندرجاتها إلى حدود أكثر من هامة، فهي عندما تنجح ستساعدني في استعادة اللحمة إلى النسيج المجتمعي السوري بعد أن استطاعت أموال الخليج إيجاد شروخ فيه، وهي ستعزز من صمود الجيش والبلاد وإمكان استعادتها وحدتها واستقرارها.
إن نظرة سريعة إلى السياسات الاقتصادية المتبعة في العقد الذي سبق الأزمة توضح أن تلك السياسات كانت تسير بخط تصاعدي سريع إلى مزيد من اللبرلة الاقتصادية التي بلغت ذروتها بوصول الدكتور عبد الله الدردري إلى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية (حزيران 2005- منتصف 2011) الأمر الذي كان يعني إطلاق يده في الاقتصاد السوري بشكل كامل.
الدردري كان مؤمناً إيماناً عميقاً بمبدأ اللبرلة إلى أقصى درجاتها التي يمكن أن تصل إليها، ومؤمناً أيضاً بوصفات صندوق النقد الدولي التي غالباً ما تكون حصان طروادة يتم استخدامها للبلدان التي يراد اختراقها تمهيداً لإركاعها، وعليه فقد كانت رؤياه تقوم على أن المعيقات التي تقف بوجه الاقتصاد السوري وتمنعه من النهوض تكمن في تلك الأعباء الهائلة التي يثقل نفسه بها والتي تتمثل بالدعم الذي تقدمه الدولة السورية للسلع الأساسية مثل المحروقات وبعض المواد الغذائية ووسائل الإنتاج الزراعي والتي تعتبر الشرائح الأدنى في السلم الاجتماعي هي المستفيد الأول منها، وفي حال تحرير الاقتصاد (كما يرى الدردري) من تلك الأعباء فإن ذلك سيوفر على الخزينة السورية كتلاً مالية هائلة كفيلة بتأمين الاعتمادات الكافية لإطلاق العديد من مشاريع التنمية التي ستدفع بالبلاد قدماً إلى الأمام.
بالتأكيد أن تلك الرؤية هي، من الناحية الأكاديمية والاقتصادية الصرفة صحيحة، أو بأدق صحيحة نسبياً، إلا أنها عندما تدخل التطبيق فإنها ستؤدي- وقد أدت- إلى صعوبات اجتماعية، وربما صعوبات حادة، في ظل وجود شرائح واسعة من السوريين كانت قد اعتادت على العيش في كنف الدولة وفي رحاب ظلالها، وعلى امتداد خمسين عاماً كانت تلك الشرائح تعتاش على الدعم الذي تقدمه الدولة بشكل غير مباشر ولذا فإن رفع ذلك الغطاء سوف يؤدي – وقد أدى أيضاً- إلى خلق خواصر رخوة يمكن أن تكون جسور عبور خارجية إلى الداخل السوري.
بالتأكيد كان لتلك السياسات الاقتصادية تداعيات سلبية عديدة أدت (مثلاً) إلى فتح السوق السورية على مصراعيه وتم إغراقه بفائض سلع باتت تشكل منافساً لسلع محلية كانت تقوم بإنتاجها مصانع صغيرة أو متوسطة الأمر الذي دفع مرة أخرى بالشرائح التي كانت تعتاش منها على الانحدار في سلم التطور الاجتماعي.
نحن هنا لسنا في معرض تقييم أو انتقاد تلك التجربة ولا بوارد الإساءة إلى من أطلقها فهو جاء بما ينسجم مع طبيعة الأفكار ومناهج الدراسة التي تلقاها في جامعة كاليفورنيا (أميركا) وجاء أيضاً بما تفرضه التجربة الغربية الرأسمالية التي كان مغرماً بها وإن كان المأخذ الأساسي على التجربة هو أنها لم تضع في الميزان مقارنة ضرورية للواقعين السوري والغربي الذي نجحت فيه اللبرلة الاقتصادية نجاحاً باهراً (كان أول ظهور لكلمة الليبرالية في عام 1870 عبر الصحف ثم بدأت تسري كما النار في الهشيم في السياسات الاقتصادية لتصبح المحرك الأساسي لتلك السياسات ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1918) فالمجتمعات الغربية كانت ببساطة قد أنجزت مهامها القومية ومسائلها الدينية والمذهبية التي سمحت بالوصول إلى طبقات مجتمعية ناضجة ومؤمنة بالليبرالية الفكرية التي شكلت أساساً صلباً لتبني الليبرالية الاقتصادية على حين أن الواقع السوري (كما العربي) كان لا يزال يعاني من تعثر في إنجاز تلك المسائل والمهام التي كانت تنخر عميقاً في الجسد السوري وتبقيه خارج الليبرالية الفكرية (أقله في الغالبية) وهو واقع يصعب تجاهله إبان رسم أية سياسات اقتصادية تحت أي ظرف كان.
تمتلك حكومة المهندس عماد خميس من الكفاءات والخبرات والنوايا ما يكفي لنجاحها في المهام الملقاة على عاتقها، لكن من الواجب قبل فعل أي شيء تحديد المنحى العام الذي ستسير عليه السياسات الاقتصادية بشكل واضح وحاسم وبإيجاز فإن المطلوب اليوم العودة إلى ما قبل عام 2005 (أي إلى ما قبل تشريعات الدكتور الدردري الاقتصادية) صحيح أن تلك مسألة بالغة التعقيد إلا أنها ليست مستحيلة ومن شأن إنجازها الدفع جدياً نحو استعادة اللحمة التي كان يعيشها النسيج المجتمعي السوري فالسوريون –ومهما يكن- مرتهنون ببعضهم البعض وما من أحد (أو شريحة أو طبقة) بقادرة على النهوض في معزل عن الشرائح والطبقات الأخرى في ذلك النسيج.
مرة أخرى نحن لا نمارس دور الناصح ونحن لا نملك الخبرة الاقتصادية اللازمة للبت في هكذا مسائل بشكل دقيق إلا من خلال تفاعل الاقتصاد مع السياسة ومنعكسات كل منهما على الآخر وقد يكون هناك انتقادات عديدة لهذه الرؤية إلا أنها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي بعد أن وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.