أردوغان ليس وحيداً.. بقلم: سعد الله مزرعاني

أردوغان ليس وحيداً.. بقلم: سعد الله مزرعاني

تحليل وآراء

السبت، ١٥ أكتوبر ٢٠١٦

كعادته في إعلان مواقفه، بشكل مباشر وفج (ووقح في أحيان كثيرة)، أعلن الرئيس رجب أردوغان، قبل ثلاثة أيام أنه يقارب الأزمتين العراقية والسورية من بوابة الصراع السني الشيعي، ولمواجهة مشروع «الهلال الشيعي» قيد التشكل «الذي «يتحدثون عنه». قبيل ذلك كان يوارب قليلاً.

تحدث، مراراً، عن سعيه لمنع «الإخلال بالتوازن» في المنطقة، أو تصديه لمحاولة إحداث تحوُّل ديموغرافي أثناء وبعد معركة تحرير مدينة الموصل العراقية والتي من المتوقع أن تنطلق أواخر الشهر الجاري.
في معظم خطواته الراهنة المثيرة للجدل أو الاعتراض، داخلياً وخارجياً، يحاول الرئيس التركي استعادة هيبته ونفوذه الداخليين، وكذلك استعادة دور محلي وإقليمي بدأ واعداً، على المستويين السياسي والاقتصادي، قبل حوالى عشر سنوات. معروف أن هذا الدور قد تعثر بسبب تعاظم «الأنا» الأردوغانية إلى ما يحاكي تجارب سلاطين بني عثمان في مرحلة الصعود والتوسع والبطش والاقتدار... الدوران الداخلي والإقليمي يتكاملان، طبعاً، في السعي لإقامة أساس صلب لجموح السلطة وحب التفرد والاستئثار لدى الزعيم التركي الأوحد! هو لم يتردد، من أجل تحقيق ذلك، في أن يتخلى عن أقرب شركائه وأصدقائه في حزبه، وعن أقرب حلفائه (الداعية غولن)، وأن يحوِّل، بين ليلة وضحاها، الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق، في علاقاته الدولية والإقليمية...تبعاً لذلك، طبعاً هو يغيِّر مواقفه وشعاراته وأولوياته. ماذا هو فاعل الآن؟
برغم أن الرئيس التركي يخبط خبط عشواء في علاقته ومواقفه، إلا أنه ليس من الصعب ملاحظة أنه يحاول أن يستعيض بالورقة المذهبية «السنّية» عن ورقة «الإخوان المسلمين». ورقة هؤلاء احترقت، تباعاً، بين يديه. آخر «شعطة» فيها دفعته إلى التخلي عن «إخوان» مصر وسعيه لتطبيع، ولو بطيء، للعلاقات مع نظام الرئيس «الانقلابي» عبد الفتاح السياسي.
لا تحظى تقلبات وقفزات ومخاطر اللعبة الأردوغانية الجديدة الراهنة بما تستحق من الاهتمام. هذا ما هو بارز على المستوى الإعلامي على الأقل. قيل أن تحذيرات وُجهت للرئيس التركي بشأن اندفاعته الحالية في كل من سوريا والعراق. جرى الهمس بأن خطوطاً حمراء وضعت أمام هذه الاندفاعة التي بدت، رغم ذلك شبه منسقة، عبر تفاهمات وصفقات، مع أطراف النزاع المحليين والإقليميين والدوليين. لا شك أن أردوغان قد حقق بعض النجاحات التي يحتاجها. لا شك أيضاً أنه يناور ويبذل الوعود التي من المؤكد أنه سينقضها، لاحقاً، حسب مصالحه ومن دون أن يرف له جفن!
يستفيد الرئيس التركي من تناقضات متزايدة بين موسكو وواشنطن. يستفيد، أيضاً، من تعثر الدور السعودي المستغرق في التدخل في اليمن بكل ما يحمله هذا التدخل من مخاطر وأكلاف سياسية وبشرية ومادية وأخلاقية (خصوصاً بعد مجزرة صنعاء)... هو يستفيد كذلك من أخطاء ترتكب في مجرى الصراع من قبل خصومه التقليديين، ومن مخاوف قوى خضعت، لابتزاز الرئيس التركي في مسألة تفاقم الهجرة ومخاطرها الأمنية والاجتماعية والديموغرافية في أوروبا خصوصاً...هذا دون أن ننسى استمرار التناقضات العربية وتردي الواقع العربي إلى درجة غير مسبوقة.
يستفيد الرئيس التركي أيضاً من عدم الاعتراض الجدي على اندفاعته ومغامرته الأخيرة في سوريا وسواها، والتي انطلقت من مسرحية «تحرير» مدينة «جرابلس» السورية بما يشبه التواطؤ المكشوف بين الجيش التركي والمدافعين، من تنظيم «داعش» عن المدينة. لقد شهد يوم 24 آب الماضي، بالفعل، مهزلة كشفت حجم التعاون ما بين بعض تشكيلات «داعش»، على الأقل، وبين السلطات السياسية والأمنية التركية. ولقد بدا واضحاً، منذ فترة، أن أردوغان يحاول أن يتقدم، تقريباً، بمقدار ما تتراجع «داعش» في أماكن أساسية من أماكن سيطرتها في كل من سوريا والعراق. هذا ما يحاول تطبيقه الآن في معركة تحرير الموصل. هو يدوس، لهذا الغرض، على كل الأعراف والأصول في العلاقات الدولية. لا يتردد في ادعاء «حق الشفعة» وكأن أرض العراق وسيادته معروضتان للبيع! ما لم يتمكن الرئيس الإخواني من فعله بواسطة «داعش» وأخواته، يحاوله الآن بشكل مباشر بواسطة جيشه واستخباراته: كل الشروط والتحديات تغري بدور تركي مباشر للدفاع عن «السنة» العرب في وجه «الخطر الفارسي الشيعي»، بعد أن تخلت عنهم واشنطن وعجزت السعودية عن بناء محور فاعل لهذا الغرض.
لم يجد أردوغان في مواجهته فعلياً (على المستوى السياسي على الأقل) سوى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. «من أنت»؟! توجه إليه أردوغان بكثير من التعالي والاحتقار. شجعه على ذلك مواقف مقلقة من قبل معنيين. شجعه أيضاً موقف أميركي اكتفى بالإشارة إلى أن دخول القوات التركية إلى العراق لا يحصل ضمن خطة «التحالف الدولي» وليس جزءاً منها. لكن، في المقابل، تولى بعض أطراف «الحشد الشعبي» تقديم هدية ثمينة لأردوغان. زعيم «عصائب أهل الحق» «قيس الخزعلي» وآخرون على شاكلته، أعلنوا بأن «معركة الموصل ستكون انتقاماً وثأراً من قتلة الحسين لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد»!
الولايات المتحدة تحاول بالفعل أن تحتوي الغضب الأردوغاني الذي تصاعد بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة، وتفاقم مع عدم تسليم واشنطن الداعية غولن، المقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1999، لسلطات أنقرة. كان الخلاف الأميركي التركي قد اندلع حول أكثر من ملف: من دور الكرد (في سوريا خصوصاً)، إلى الموقف من نظام السيسي بعد «الانقلاب»، إلى مسألة الانقلاب العسكري الفاشل نفسه ضد أردوغان في 15 تموز الماضي والذي اتُّهمت واشنطن بالتواطؤ معه... طبعاً، يتقاطع الموقفان الأميركي والتركي في مسائل كثيرة، منها استخدام القوى الإرهابية، ولو مرحلياً، ضد التحالف الروسي ـ الإيراني ـ السوري. لكن إدارة أوباما على وشك المغادرة. هي تصرِّف الأعمال فحسب. وما تتخذه من مواقف لن يخضع إلا لأمر واحد: خدمة معركة المرشحة للمنصب الأول في أميركا والعالم: هيلاري كلينتون.
مرة جديدة، ترشح أنقرة الأردوغانية نفسها لاستعادة شيء من الوصاية العثمانية على المنطقة. ليس من قبيل المبالغة اعتبار «خلافة» الإرهابي أبو بكر البغدادي «بروفة» لاستعادة الخلافة الاسلامية العثمانية من قبل أردوغان. الواقع أن زعامة المشروع «السنّي»، الآن، معقودة اللواء، من دون منافس جدي، لأنقرة، بعد غرق المملكة السعودية في الرمال المتحركة اليمنية وغرق القاهرة في أزماتها المفتوحة على الأسوأ. زيارة الرئيس التركي إلى الرياض هي لمحاولة بلورة تفاهمات تحت هذا العنوان الذي لا يتقدمه أي عنوان آخر بالنسبة إلى القيادتين السعودية والتركية.
كان يمكن لتركيا أن تلعب دوراً إقليمياً إيجابياً يعزز من مكانتها السياسية ومن نهضتها الاقتصادية. لكن أردوغان لا يكتفي فقط بـ«دعوسة» ما فلحه هو، بل ما فلحه، أيضاً، سواه من أصحاب شعارات «مصالحة الإسلام والديموقراطية» و«صفر مشاكل»... كل ذلك رضوخاً لإغراءات السلطة والعظمة! مثل هذا الجموح سيصبح بالغ الخطورة عندما يرتدي اللبوس المذهبي الذي يخترق السياسات والبرامج والنفوس على النحو التدميري الراهن.
يبقى أنه، للأسف، ليس هناك أردوغان واحد في هذه المنطقة وهذا العالم... ولو اختلفت الأحجام!