مهرجان الدم المقام على تخومنا.. بقلم: فهمي هويدي

مهرجان الدم المقام على تخومنا.. بقلم: فهمي هويدي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١ نوفمبر ٢٠١٦

تحرير الموصل يفجر الصراع حول المستقبل ولا ينهيه.
(١)
حيث نشرت صحيفة «الحياة» اللندنية على صفحتها الأولى صورة مكبرة لسحل شاب من «داعش» في مدينة كركوك من خلال ربطه بحبل تدلى من مؤخرة سيارة دفع رباعي، فإن رسالة الصورة التي يقشعر لها البدن حملت إلينا «عينة» من إرهاصات الهول القادم في شمال العراق. إذ برغم فداحة المنظر ووحشيته، فإن جمهور الواقفين فى الشارع تعاملوا معه باعتباره حدثاً عادياً ومألوفاً، وهم معذورون فى ذلك، ليس فقط لأن لجماعة «داعش» سبقها فى ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولكن أيضا لأن السحل له تاريخ عريق تتفرد به العراق (سابق على سحل الأمويين فى البصرة). لذلك فإن جميع المتقاتلين يمارسونه بغير استثناء. لم يكن ذلك فقط ما أثار الانتباه في ما نشرته الصحيفة اللندنية يوم ٢٦ تشرين الأول، لأنني لاحظت أن عناوين الصفحة الأولى تحدثت عما يجري في الموصل، في حين أن السحل كان في مدينة أخرى هي كركوك. وفي حين أن العنوان الرئيسي تحدث عن «مجازر داعشية في الموصل.. وسحل مدنيين وإلقاء جثث في بحيرة»، فإن الشخص المسحول في كركوك كان ينتمى إلى «داعش» وأن السيارة التى جرته كانت تابعة للبشمركة الكردية.
اللقطة معبرة وكاشفة لأحد مشاهد تعقيد الاقتتال العبثي والمجنون الدائر في شمال العراق وسوريا، إذ تتداخل فيه صراعات السنة والشيعة والأكراد والعرب والعراق وتركيا وصراع الجميع ضد «داعش» المنسوب إلى تنظيم «الدولة الإسلامية». أعني أن الجميع يحتشدون ضد «داعش» حقاً، لكن اقتتالهم في ما بينهم مستمر أيضاً، ولا يقل ضراوة. الأمر الذي يعني أن الخلاص من التنظيم الذي يجري الاحتشاد لأجله الآن لن يحل المشكلة، لأن ما بعده يمثل طوراً جديداً في الصراع سواء في العراق أو في سوريا.
(٢)
أفول «داعش» يمر الآن بفصله الأخير. والحاصل الآن حول الموصل إذا حقق هدفه، سيكون بداية النهاية. ذلك أن الموصل كانت الجائزة الكبرى التي اختطفها «داعش» في ظروف غامضة ومريبة فى العام ٢٠١٤، وحوّلها بعد ذلك إلى قاعدة أساسية له مستفيداً من ظروف خاصة بالمدينة سنعرضها بعد قليل، حتى أزعم أنها من الناحية الاستراتيجية تعد أكثر أهمية من الرقة التى صارت عاصمة دولة الخلافة في الأراضي السورية. وبسبب تلك الأهمية، فإن وجود «داعش» فى الموصل يعد مسألة حياة أو موت بالنسبة للتنظيم. ولهذا السبب فإنهم سوف يدافعون عن وجودهم فيها حتى آخر رمق. إذ فضلاً عن ثرائها التاريخي والنفطي والتجاري، فاسمها مستمد من كونها المكان الذي يصل فيه كل شيء، التجارة والمعاشرة والبيع كما تقول المراجع التاريخية. إذ هي تصل بين ضفتي نهر دجلة وبين الجزيرة والعراق، وبين دجلة والفرات، وهي في نقطة وسط بين إيران وتركيا، وبها يمر الطريق إلى حلب في الشمال السوري. وبسبب كونها مركز محافظة نينوى التي يمتد تاريخها إلى ما قبل العصر الحجري، فقد حرصت القوى الكبرى في المنطقة على الاستئثار بها، من الرومان إلى الفرس والعثمانيين. إذ ظلت تحت الحكم العثماني أكثر من أربعة قرون (من ١٥٣٤ حتى ١٩١٦)، وبعدما تنافس عليها الفرنسيون والبريطانيون (بعد ظهور النفط فيها)، قررت الأمم المتحدة ضمها إلى العراق العام ١٩٢٥.
التركيبة السكانية للموصل أحد مصادر المشكلات التي تعاني منها، فسكانها البالغ عددهم ٢ مليون شخص أغلبهم من العرب والتركمان السنة، والباقون أقليات يمثلون خليطا من الأكراد والمسيحيين بطوائفهم المختلفة إلى جانب الشبك (فرقة أقرب إلى الشيعة) والصابئة واليزيديين.
حين انفرط عقد العراق وبرزت التمايزات المذهبية والعرقية، هبت رياح التنازع والفرقة على الموصل، فطمع فيها الشيعة والأكراد، الأمر الذي استفز أغلبيتها السنية، خصوصا أن الشيعة أصبحوا في السلطة ببغداد وأن التحالف الكردستاني أعان القوات الأميركية على احتلال المدينة في العام ٢٠٠٣ بعد سقوط الرئيس صدام حسين. إذ اعتبر سكانها من أهل السنة من الموالين للنظام السابق.
بسبب ظهور الصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة، وجد تنظيم «القاعدة» أرضاً خصبة له في الموصل. وكانت تلك خلفية ساعدت على التجاوب مع «داعش» الذي ورث تنظيم «القاعدة». ساعد على ذلك أن ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية مارست العديد من الانتهاكات بحق أهل السنة وعملت على تهجيرهم من بعض مدنهم مثل تكريت والفلوجة والرمادي، وهو ما دفع بعض عشائر الموصل إلى اعتبار وجود «داعش» في مدينتهم حماية لهم تؤمنهم ضد انتهاكات «الجيش الشعبي».
(٣)
في الوقت الراهن تحتشد لتحرير الموصل من سيطرة «داعش» الأطراف التالية: التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الجيش العراقي، ميليشيات «الحشد الشعبي»، قوات تابعة للجيش التركي، «التحالف الكردستاني»، الجيش الوطني الذي يضم متطوعين من العرب السنة، وحشود من هذا القبيل تملك سيطرة كاملة على الجــــو إضافة إلى قدراتها العســــكرية على الأرض، بمقدورها أن تنزل هزيمة ساحقة بقـــــوات «داعش» الموجودة داخل الموصل أياً كان عددها.
لكن الأمر دونه عقبات جسيمة وله تكلفته الباهظة. ذلك أن المدينة التي كان سكانها نحو مليوني نسمة، هاجرت منها أعداد غفيرة لا تقل عن نصف مليون نسمة أغلبهم يمثلون الأقليات التي يعاديها «داعش»، وهو ما يعني أنه لا يزال يعيش فيها مليون ونصف المليون مواطن. تنتشر عناصر «داعش» في تجمعاتهم منذ أكثر من سنتين. وانتشار «الدواعش» وسط التجمعات البشرية لأهل الموصل يمثل مشكلة كبرى. وكما كان متوقعا، فإن «الدواعش» استدعوا آلافاً من سكان القرى المحيطة لاستخدامهم كدروع بشرية يحتمون بها في مواجهة القوات الزاحفة عليهم من كل صوب. في الوقت ذاته، فإنهم أحاطوا الموقع بالسراديب والبيوت المفخخة لتعويق تقدم تلك القوات.
الالتحام الحقيقي لم يحدث بعد، ولكن المناوشات مستمرة والتقدم البطيء نحو المدينة يتحرك، ولا يخلو الأمر من كر وفر على هذه الجبهة وتلك. وتتفق التقارير الصحافية على أمرين، الأول أن احتماء عناصر «داعش» بسكان المدينة هو الذي أخَّر الهجوم عليها واجتياحها. الثاني أن حجم الدمار والضحايا سيكون هائلاً في كل الأحوال. حتى قرأت في أحد التقارير قول أحد كبار الضباط الأميركيين أنه كما حدث في فيتنام، فإن إنقاذ الموصل من أيدي «داعش» لن يتم إلا بعد تدميرها.
إذا وضعت في الاعتبار أن نسبة ليست قليلة من عناصر «داعش» من الانتحاريين، فسوف تدرك أن القتال لن يكون سهلاً، وإنما سيظل شرساً وقد يدور بين كل بيت وبيت. الأمر الذي لا بد أن يوقع أعداداً هائلة من الضحايا على الجانبين. ناهيك عن أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة طبيعة الأسلحة غير المشروعة التي لدى الطرفين. وهو ما يفتح الباب لاحتمال استخدام السلاح الكيماوي. وكانت صحيفة «التايمز» البريطانية قد ذكــــرت في تقرير نشــــرته الأســـبوع الماضي أنه تم استخدام الفوسفور الأبيض في معارك تحرير بعض القرى التي تدخل في نطاق الموصل.
هذا «السيناريو» يبرر وصف ما ينتظر الموصل بأنه من قبيل الهول الذي لا مفر منه.
(٤)
مشكلة اليوم التالي لتحرير الموصل أكثر تعقيداً، لأن العرب لن يقبلوا بسيطرة الأكراد والسنة، لن يقبلوا بهيمنة الشيعة، وحكومة العراق لن تسمح بتواجد الجيش التركي، وتركيا ستصر على قطع الطريق على تطلعات إيران التي تقف وراء «الحشد الشعبي». وإزاء هذه التباينات فإن التوافق على كيفية إدارة الموصل سيصبح أمراً صعباً. وقد يؤدي إلى تجديد الصراع المسلح خصوصاً في ظل استقواء ميليشيات «الحشد الشعبي» واعتمادها على المساندة الإيرانية وتأييد حكومة بغداد والجناح المتطرف فى السلطة الشيعية.
قرأت تحليلا نشرته صحيفة «يني شفق» التركية لرئيس تحريرها إبراهيم قرة غول قال فيه إن الخط الرابط بين الموصل وحلب بات خط الدفاع الجديد لتركيا. لذلك لا مناص من هيمنة أمنية وعسكرية تركية هناك. وثمة من يحاول رسم خريطته الخاصة لإزعاج تركيا في كركوك والموصل وحلب. لذلك حري بتركيا أن تتحرك وتتدخل في حملة استباقية لإجهاض تلك السيناريوهات. وإذ انتزعت مناطق شمال الموصل وحلب في سوريا والعراق، فعلى تركيا أن تتحرك لضمان مصالحها هناك.
استوقفني في الأصداء ما نشرته صحيفة «هاآرتس» للكاتب عاموس هرئيل في ١٠/١٨، إذ ذكر أن ما يجري في الموصل نموذج لمعارك المستقبل في الشرق الأوسط التي ستؤدي إلى اشتباكات في المناطق المأهولة بالسكان، الذين سيعلقون بين الأطراف المتحاربة، وهو درس ينبغي أن تستفيد منه إسرائيل في حروبها القادمة في المناطق المكتظة في غزة وجنوب لبنان.
إن رســــم الخرائط الجديدة مستـــمر حولنا، ونحن جميعا نقف متفرجين. هل ننتظر حتى تطرق أبوابنا؟