الخدمة العسكرية السورية: «الفزّاعة» و«الحلول».. بقلم: رامي كوسا

الخدمة العسكرية السورية: «الفزّاعة» و«الحلول».. بقلم: رامي كوسا

تحليل وآراء

الجمعة، ٤ نوفمبر ٢٠١٦

أثناء المقابلة الّتي أجرتها معه صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الرّوسيّة، قال الرئيس السوري بشار الأسد، في معرض ردّه على سؤال محاوِرته عن السّبب الّذي يمنع الدولة السورية من إعلان التعبئة العامّة وإشراك عمومِ الشباب المؤهّلين للقتال في معارك الجبهات، قال: «ما لدينا الآن هو ما يمكن تسميته تعبئة جزئيّة. أي أنّها ليست بأعلى مستوياتها». وأضاف الرئيس السّوري: «إنّ أعلى مستويات التعبئة تعني مشاركة الجميع في القتال على مختلف الجبهات العسكرية، وهذا يعني ألّا يكون أحدٌ في الجامعات وألّا يكون هناك مُدرّسون في المدارس ولا موظّفون يقومون بأيّ شيء، وحتّى الشّاحنات والسيّارات سيتمّ استخدامها من قبل الحكومة، وكلُّ شيء آخر سيكون جزءاً من هذه الحرب». واختتم الأسد حديثه قائلاً: «سيكون ذلك مقبولاً لو كانت هذه الحرب ستستمرّ لبضعة أسابيع أو ربمّا بضعة أشهر فقط، لكنْ بالنّسبة لحربٍ مستمرّة لحوالي ستّ سنوات الآن، فإنّ هذا يعني شلل المجتمع والدولة، ولن تتمكنّي من كسبِ الحرب إذا كان لديكِ مجتمع مشلول، ولذلك ينبغي أن يكون هناك توازنٌ بين الحرب وبين الاحتياجات الأساسية للمجتمع».
كلام الرّئيس الأسد يوحي بأنّ الدولة السورية ليست غافلةً عن أهمية القطّاع المدنيّ في حربٍ بخصوصية القتالِ السوريّ المديد، الأمر الّذي يُحيلنا إلى ضرورة البحث في ثنائيّة «الجيش، والشباب» بما فيها من مشكلاتٍ آنيةٍ وأُخرى أصيلة باتت تحتاجُ إلى حلولٍ تقي البلادَ خطرَ الكهولةِ الناتجة عن الهجرة الكثيفة للفتوّة السوريّة.
بدايةً، لا بدّ من الاعترافِ بأنّ الخدمة الإلزامية قد تحوّلت اليومَ إلى «فزّاعةٍ» تسبّبت، وما زالت تتسبّب بـ «فرارِ» طيفٍ واسعٍ من الشبابِ السوريّ. كثرٌ هم من يهجرون البلادَ خوفاً من أن يُساقوا إلى الجبهاتِ الحامية، حيثُ يموتُ سعيدُ الحظّ، أمّا التعساء فقد يضطرّون لقضاءِ حياتهم الباقية متعايشين مع عضوٍ مبتورٍ أو جسدٍ عاجز.
إن إجراء مكاشفةٍ في جزئيات المُشكلة، تتطلّب الإجابة عن سؤالٍ رئيس:
«ما الّذي يدفع جزءاً يسيراً من الشباب السّوريّ إلى التهرّب من الخدمة الإلزامية؟»
التصالح مع الذات يقتضي الاعتراف بأنّ «ضعف انتماءِ» الفردِ السوريّ لوطنه هو السبب الكامنُ خلفَ تهرّب الشباب من الالتحاق بصفوف الجيش. الأمرُ هنا يتعلّق بغياب مفهوم المواطنة في دولةٍ لا يُعوّل على قضائها، وبعبارةٍ أبسط «لا تستطيع أن تأتي إلى مواطنٍ قُهر أيّامَ السّلم، وتسأله عن أسباب تقاعسه في القتالِ دفاعاً عن دولته أيّام الحرب». هذه نُقطة.
بعضُ مقاتلي الجيش السوري قضوا قرابة ستِ سنواتٍ ونصف في صفوفِ القوّات المسلّحة، وما زالوا قيد الاحتفاظ حتّى تاريخ كتابة هذه المقالة. بين هؤلاء من يعتقد أنّ استراحة المحارب قد تتأخّر أشهراً إضافيَة أو ربّما سنوات.
يُشكّل هذا الطّيف من المقاتلين نموذجاً مرعباً بالنّسبة للشباب المدنيّ، البعضُ لا مُشكلة لديه في الانضمام لمرتبّات الجيش شرط أن تصدرَ قوانين نافذةٌ تحدّد، وبدقّة، الزّمن الأعظميّ للاحتفاظِ بالمقاتل الواحد. عدد لا بأس به من «المتخلّفين عن الخدمة»، أو المؤجّلين أصولاً، ما زالوا يبدون استعدادهم للقتال مدّة سنتين أو حتّى ثلاثِ سنوات، على أن يُصارَ إلى تسريحهم والسّماح لهم بالعودةِ إلى الحياة المدنيّة بعد ذلك. كلّ ما يريده هذا الطّيف من السوريين هو «ضبطُ زمنِ المقامرة بأرواحهم» فإذا كُتبت لهم النجاة، استحقّوا العودةَ إلى بيوتهم وإلى ذويهم وأولادهم وحبيباتهم. هذه نقطةٌ ثانية.
في محصّلة النقطتين، نجد أنفسنا أمام ظاهرةٍ أقلّ ما يُقال فيها: «إنّها مرعبة»، والحديث هنا عن سفر الكفاءات والعقول وحملة الشهادات خارج حدودِ البلاد. بعضُ هؤلاء يغتربون أربع سنوات، هي المدّة المنصوص عليها قانونياً كشرطٍ لدفع بدلٍ نقديّ عن الخدمة العسكرية قيمته 8000 دولار، قبل أن يعودوا إلى البلاد وقد تخلّصوا من كابوس الجندية. البعضُ الآخر تطيب له بلادُ ما وراء المحيط، فتخسره سوريا النامية إلى الأبد.

ماذا في الحلول؟
لم تتأخّر الدولة السورية في المجاهرة باعتمادها على مقاتلي «الدفاع الوطنيّ». اللعب على المفردات لا يُمكنه أن يغيّر من حقيقة أنّ هؤلاء هم «مقاتلون مأجورون» يتقاضون رواتبَ لقاءَ امتهانهم القتالَ وحمل السّلاح. وعليه: يبدو أنْ لا مشكلة لدى الدولة في تجنيد مزيدٍ من الشباب وتحشيدهم للقتال في صفوفها لقاءَ منحهم أجوراً ومرتّباتٍ شهرية.
وفي المقابل، فإنّ نسبة الشباب الّذين يعانون من آفة البطالة في سوريا آخذةٌ بالازدياد. ربّما يجد هؤلاء في «وظيفة القتال» فرصةً لا بأس بها للحصول على دخلٍ قد يُمكّنهم، وعائلاتهم، من تأمينِ كفافٍ يعينهم على التعايش مع الحرب ويوميّاتها.
ضمن هذا السّياق، تبدو إعادة تداول مقترح «البدل الداخليّ» مفيدةً على سبيل إيجادِ تسوية تحدّ من هجرة الشباب، وتضمن للدولة موارد مالية كبيرة تعينها على مضاعفةِ قيمةِ مرتّب المقاتل الواحد بما يضمن زيادة نسبة التطوّع لرفد الجيشِ بمحاربين إضافيين.
البدل الداخلي فكرة جرى تداولها مراراً قبل الحرب، تتلخّص في تمكين الشاب السوريّ من دفعِ مبلغٍ ماليّ كبيرٍ نسبياً لقاء إعفائه من الخدمة العسكرية من دون أن يُضطرّ إلى السفر والاغترابِ في بلادٍ أجنبية.

عن إيجابيات الفكرة وسلبياتها
يشكّل البدل الداخليّ مورداً ممتازاً لجهة رفد الخزينة بالقطع الأجنبيّ، كما أنّه مطلبُ شبابٍ كثر ليس لديهم ما يضطرهم للسفر باستثناء خوفهم من شبح الخدمة الإلزامية، الأمر الّذي يعني أن ما سينفقه هؤلاء خارج البلاد سيتحوّل إلى مالٍ يُشارك في دورةِ الاقتصاد المحليّ، إضافةً إلى كونِ معظمهم يحتكم إلى كفاءاتٍ يُمكن لسوريا أن تستثمرها بصورةٍ أفضل من جعلِ الأطباء أو المهندسين أو الفنّانين يقضونَ على جبهاتِ القتال.
في السّلبيّات، يصطدم المقترح بذريعة أنّ تطبيقه سيحوّل جيشَ البلادِ إلى جيشٍ من الفقراء، أمّا الأغنياء وميسورو الحال فلن يكونوا مطالبين بالقتالِ دفاعاً عن بلدهم. هذا النقد قد يبدو صحيحاً من الزاوية النظرية أو الشعاراتية.
عمليّاً، يعلم السوريّون، كلّهم، أنّ الجيش السوريّ اليوم هو جيش فقراء، شاء المعنيّون الاعتراف بذلك أم أبوا. الأغنياءُ والمقتدرون لن يجدوا حرجاً في صرفِ بضعةِ آلافٍ من الدولارات لتأمينِ حياةٍ رغيدةٍ ﻷولادهم في أوروبا، أو في دبيّ، أو حتّى في لبنان. الأمر ذاته ينسحب على المنتمين إلى ما تبقّى من الطبقة الوسطى، نسبةٌ واسعةٌ من هؤلاء تبدي استعدادها للقيام بأيّ شيء كرمى لتأمين 8000 دولار، هي كلفة تهريبهم إلى ما وراء المحيط، وكلّ ذلك ناتجٌ من خشيتهم من أن يساقوا إلى خدمة العلم.
في سوريا، يتداول الناس اليوم إشاعةً كابوسيّة تُفيد بتوجّه الدولة إلى رفع الدّعم عن الخبز، الّذي يُشكّل قوت الشعب وكفافه الرئيس، وذلك بهدفِ رفد الخزينة بسيولةٍ مضافة. ضمن هذا السّياق نستطيع أن نجزم أن الاتّكاء على عائدات البدل الداخليّ يبدو حلّاً مناسباً لإشباع «جوع الخزينة» بطريقةٍ لا تتسبب بتجويع الناس.