ماذا بقي لأميركا من قدرة بعد فوز ترامب؟.. بقلم: عبد الفتاح نعوم

ماذا بقي لأميركا من قدرة بعد فوز ترامب؟.. بقلم: عبد الفتاح نعوم

تحليل وآراء

الاثنين، ١٤ نوفمبر ٢٠١٦

جاء فوز دونالد ترامب بالسباق الرئاسي الأميركي مناقضاً تماماً لأغلب التوقعات والاستطلاعات التي سبقت الانتخابات. وبقدر ما خلّف ذلك الفوز صدمة واستغراباً كبيرين في أوساط الرأي العام العالمي، بقدر ما أعاد نقاش التحول في السياسة الخارجية الأميركية إلى الواجهة. ومعه عاد الحديث عن التراجع الأميركي حيال قضايا السياسة الدولية، وحيال شؤون الشرق الأوسط والانكفاء نحو إعادة ترتيب البيت الداخلي.
في الحقيقة، ومن خلال تجميع تصريحات ترامب خلال حملته الرئاسية، فإنه يصعب الرسو على صيغة واضحة للعلاقة التي يطمح ترامب إلى إقامتها مع الشرق الأوسط، باعتباره محور السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية والموضوع الرئيسي للسياسة الخارجية الأميركية منذئذ. وبالتالي يصعب استيضاح طبيعة السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب؛ هل ستكون ماضية نحو المهادنة والانكفاء، أم صوب الاشتباك والمواجهة؟
ومرد ذلك إلى أن ترامب كان يراوح خطابه بالوعد بالتخلي عن المملكة العربية السعودية، ولوم «الديموقراطيين» على صرف مبالغ ضخمة على الشرق الأوسط، وبين الوعد بالاعتناء بإسرائيل أكثر، والتعاون مع الروس في الحرب على الإرهاب، والعودة بالعلاقات الأميركية الإيرانية إلى وضع الاشتباك، على أرضية إلغاء الاتفاق النووي. هذا فضلاً عن كلامه عن العلاقات مع المكسيك، وإعادة النظر في الانضمام لمنظمة التجارة الدولية، وغيرها من الوعود التي جعلت أغلب القوى الدولية ترتاب من مرحلة ما بعد فوز ترامب.
لكن حزمة الوعود المقرونة بالشعبوية الطافحة، والتي خاطبت بلغة فجة أحياناً المزاج الشعبي الأميركي «الأبيض»، وركزت على تصحيح الأوضاع الاقتصادية والضريبية، وإلغاء قانون الرعاية الصحية وغيرها.. كلها وعود أعطت انطباعاً لاتجاهات التحليل المختلفة، بأن الأمر يؤشر إلى انعطافة كبرى، وإلى انكفاء نحو المعادلة الأميركية الداخلية. لا سيما أن المعجم الخطابي لترامب أثناء حملته لم يخل من الهجوم على الأقليات والمهاجرين والسود والنساء، وهو الأمر الذي دفع المعترضين على ترامب إلى الاحتجاج عليه مباشرة غداة فوزه.
لكن كل ذلك لا يسوغ القول بأن معظم تلك الوعود للداخل والخارج ستجد فرصتها للنفاذ، حتى ولو تسببت في شطر الرأي العام الأميركي، وتخويف ساسة ومواطني العالم والشرق الأوسط. حيث أن لهجة ترامب ما بعد الفوز، والهدوء التدريجي الذي بدأ يغشاها، كفيلان بأن يسوغا العكس. ذلك أن ترامب المرشح قد يرتطم بترامب الرئيس، حيث ستكون تصرفاته مسقوفة بضوابط ونواظم الأطر المؤسساتية، وستكون رغباته مجبرة على الانصياع لموازين قوى الداخل والخارج، وهي الموازين التي أخذت في التشكل على إثر التجربة التاريخية الكبيرة التي دخلتها الولايات المتحدة منذ نهاية الثنائية القطبية.
إن اعتبار الولايات المتحدة «دولة مؤسسات»، وليست دولة أهواء وأمزجة النخب التي تحكمها، لهو تعبير «ملطف» يكثف واقع القوى التي تشكل عصب النظام الحاكم في البلاد، والناظم لمؤسساته الدستورية. نتحدث هنا عن تشكيلة الكارتيلات والتروستات التي تسود العلاقات فيما بينها قواعد اللعبتين الصفرية وغير الصفرية، ما يعني تعاطيها مع بعضها وفق منطق التعاون والصراع في آن واحد، ووفق أنماط لا حصر لها. وبالطبع يشكل التجمع الصناعي العسكري، والاحتياطي الفدرالي الأميركي، ولوبيات المال والأعمال والإعلام كلها مع بعضها أهم أعمدة تلك التشكيلة.
لكن هذا لا يعني أن قدرات هذه الفواعل غير محدودة بقدر من القيم التي ترسخت من الثورة الأميركية، والتي منحت للرأي العام أيضاً القدرة على التحول إلى عامل إرباك، خاصة حينما يتفق لوبي الحرب ولوبي السلام في تلك التشكيلة على حفز المؤسسات الدستورية الطافية على السطح، كي تقدم على حرب مثلاً. ولنا أن نقارن مع هنري كيسنجر الدور الذي لعبه الرأي العام في تظهير الانتكاسة الأميركية في حرب العراق سريعاً، خلافا لدوره المثيل في حرب الفييتنام، بفعل تطور وسائط البث والتواصل الاجتماعي. وهو ما يفسر تصاعد صوت الداخل، وحاجة قسم مهم من الأميركيين إلى من يخاطبهم بلسان مشاكلهم الداخلية، وهو ما رتب فوز ترامب الذي لم يكن منتظراً.
وبالتالي فإن الرهان على اعتبار فوز ترامب مفتاحاً لإحداث التغيير بالانكفاء نحو الداخل، أو الاشتباك أكثر مع قضايا السياسة الدولية وشؤون الشرق الأوسط، سيكون غير محاط بعوامل النجاح. فالتراجع الأميركي على الساحة الدولية والشرق أوسطية بدأ مع الفشل في الحرب على العراق، وبلغ مداه مع ارتدادات الأزمة السورية، والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.
ففي سنة 2006 وبعد أشهر من حرب لبنان، صدر تقرير مشترك عن الحزبين «الجمهوري» و«الديموقراطي»، في إطار ما عرف بـ «مجموعة دراسة العراق»، والتي ترأسها كل من جيمس بيكر ولي هاملتون، وخلصت إلى ضرورة انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، ترتيباً على الوضع في العراق الذي لم تنجح معه خطة «مكافحة التمرد». وهو ما استوجب على الولايات المتحدة منذئذ أن تتخلى عن حلم «القرن الأميركي الجديد»، وتستحيل قوة في مداها الحيوي، كما انتهت إلى ذلك مقالة مهمة نشرها ريتشارد هاس في السنة ذاتها في مجلة «فورين أفريز» بعنوان «الشرق الأوسط الجديد».
صحيح أن النخبة الحاكمة وحلفاءها الإقليميين لم يمضوا في الطرح نفسه، والخطة التي تضمنها التقرير الذي أصدره معهد «المشروع الأميركي» سنة 2007 بعنوان «اختيار النصر»، كانت بديلاً عن مشروع لجنة بيكر ـ هاملتون، إلا أنه لم تمض سوى سنوات قليلة حتى جاء تقرير الأمن القومي الأميركي لسنة 2010، معبراً عن خلاصة موازين القوى التي مهدت الطريق أمام وصول أوباما إلى الرئاسة، والإعلان أن «الولايات المتحدة لم يعد في مقدروها تحمل تبعات النظام الدولي لوحدها». كل ذلك تزامناً مع وصول القوى الجديدة إلى أوج صعودها.
ثم جاءت الأزمة السورية والاتفاق النووي الإيراني والتراجع عن تسديد ضربة إلى سوريا، وغيرها من الأحداث التي أحدثت اهتزازاً في عناصر القوة التي ارتكنت إليها الولايات المتحدة في العقود الماضية. وبالتالي بات من غير الدقيق القول مع وصول رئيس مثل دونالد ترامب، بأن موازين القوى تلك تغيرت، أو أن مزاجه كافٍ لإحداث التغيير المذكور تجاه قضايا العالم والشرق الأوسط. هذا برغم أن الولايات المتحدة مازالت هي سيدة النظام المصرفي العالمي، والمتحكمة في مسألة الطاقة، والممتلكة زمام المعلومات والاتصالات، والمتوفرة على أكبر جيوش العالم، وأكثرها قدرة على التنقل البري والبحري بفعل قواعده المنتشرة. لكن القوة شيء، والقدرة على تصريفها شيء آخر، فالبعوضة تدمي مقلة الأسد.