الانفراط الإقليمي: أعلى مراحل العولمة.. بقلم: جميل مطر

الانفراط الإقليمي: أعلى مراحل العولمة.. بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ١٧ نوفمبر ٢٠١٦

بكل المعاني وفي كل الأوقات، لم يكن مقبولاً من حيث المنطق وواقع الأحوال الحديث عن احتمال انفراط الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأغنى على امتداد أكثر من قرن، والأقوى والأعظم على امتداد حوالي سبعين عاماً. فجأة، وبفضل الانتخابات الأميركية الأخيرة لشغل منصب رئيس الدولة، وجدنا أنفسنا وسط فورة هائلة من اجتهادات تحاول تفسير ظاهرة المرشح عن «الحزب الجمهوري» وهو ليس من الحزب بل هو خصم له وعنيد في خصومته، وظاهرة المرشح الملياردير وهو كاره لطبقة رجال المال المهيمنة على السياسة والاقتصاد، وظاهرة الرجل المتعصب بعنف لبشرته البيضاء ومع ذلك تجاسر فرشّح نفسه لرئاسة أمة متعددة الألوان والأعراق والعقائد والأصول. فورة تحاول أيضاً تفسير شعارات رفعها متظاهرون وتحدث عنها مفكرون وشباب جامعات في ولايات بعينها، تهدد بالدعوة للانفصال عن واشنطن وتنقل حال الاستقطابات الاجتماعية والعرقية إلى مستوى مختلف تماماً.
نستطيع ببساطة متناهية تحميل السيد ترامب المسؤولية عن تهور شباب في ولايات غرب أميركا راحوا ينددون بوصوله إلى أعلى منصب في البلاد ويدعون إلى الانفصال. لم أقابل أحداً خلال الأيام الأخيرة إلا وألقى على ترامب اتهاماً بالمسؤولية عن تطور أو آخر. ننسى جميعاً أن الرجل هو نفسه ثمرة من ثمار تطور عالمي هائل، اخترنا له قبل عشرين أو ثلاثين عاماً صفة أو لقب «العولمة». الرجل نفسه لا ينكر. فالعولمة هي التي فتحت له أبواب أوروبا الشرقية وروسيا والدول العربية ليغرف ما شاء من الثروات في زمن الحدود المفتوحة والأموال المتحركة بيُسر. استفاد مثل كثيرين من تسهيلات انتقال العمالة، حين اختار جميلات أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية سلعاً عرف كيف يصقلها قبل أن يعرضها في مباريات ملكات الجمال والأناقة والذكاء والتمثيل والتصوير. ونجح. نجح لأن العولمة كانت مسيرة يمشي فيها أمثاله، تحميها الدول الغربية العظمى. أينما ذهب من أجل سلعة أو قرض أو كنز، وجد حرّاس الدول في انتظاره عند الحدود المفتوحة له ولأقرانه من التجار والمستثمرين وكبار موظفي الشركات والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
استفاد ترامب من العولمة إلى أقصى حد، واستفادت منه العولمة أيضاً إلى أقصى حد. أتصور أحياناً أنه لو لم يكن موجوداً في سنوات صعودها لأوجدته العولمة مثلما أوجدت الألوف من المفكرين والاقتصاديين الذين أعادوا صياغة علوم الاجتماع والسياسة وتفكيك بعضها إلى جزيئات، ثم راحوا يرتّبون الهويات والانتماءات وفق هذه الجزيئات. الجدير بالذكر هنا أن أميركا الدولة الأعظم الراعية للعولمة لم تفلت من التداعيات الجانبية لها وها هي أمامنا تدفع الثمن كما دفعنا ودفعت غيرنا من شعوب أوروبا والشرق الأوسط.
أذكر كيف كنت مغرماً بتجربة الاندماج الأميركية الكندية، والعلاقة المصاغة بكل دقة بين الولايات المتحدة والمكسيك. أتحدث هنا عن فترة أواخر الستينيات، أي الفترة السابقة مباشرة على سنوات العولمة كما عرفناها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. بمعنى من المعاني، كانت تجربة الاندماج في قارة أميركا الشمالية مقدمة نموذجية للعولمة، تماماً كما كانت تجربة اتحاد الحديد والصلب الذي كان يضم في عضويته هولندا وبلجيكا ولوكسمبرغ وفرنسا وألمانيا وإيطاليا مقدمة نموذجية أخرى. كانتا تجربتين فاتحتين لشهية الشركات الدولية ورؤوس الأموال المتجمعة بوفرة في عديد الأسواق المالية وللصين، الدولة الصاعدة الأكثر استفادة من العولمة.
لذلك كان لتهديدات المرشح وقع الصدمة عند شخص مثلي، نشأ فكره السياسي عن الاندماج أو التكتل الإقليمي مع نشأة وتطور هاتين التجربتين، بالاضافة إلى تجربة إقامة تكتل إقليمي يضم الدول العربية حديثة الاستقلال. خرج ترامب على الناس بإنذار مفاده أنه لو انتخب رئيساً فسَيقيم سوراً اسمنتياً على طول حدود بلاده مع المكسيك لمنع انتقال الأشخاص، وسيوقف المفاوضات الجارية لمزيد من تحرير التجارة مع كندا وغيرها من الدول، حتى لا تخرج رؤوس الأموال الأميركية إلى الخارج لتبني مصانع في دول أخرى. حجته أن عمال أميركا «البيض» عاطلون عن العمل بسبب هذه السيولة في انتقال الأشخاص والأموال والبضائع. كان ترامب واضحاً كل الوضوح، لا انتقال حرّ للعمالة ولا نزوح لرؤوس الأموال، بمعنى آخر لا عولمة. العولمة في نظر ترامب هي المسيرة التي بسببها اختفت مئات الألوف من وظائف الرجل الأبيض في أميركا.
ما لم يقله ترامب علناً هو أن الوظائف التي اختفت كانت تلك التي يعمل فيها الشباب والرجال والنساء من حملة الشهادات المتوسطة، أي من هؤلاء الذين لم يحصلوا على تعليم جامعي. اختفت الوظائف لأن العولمة فرضت الانتقال إلى اقتصادات التكنولوجيا الأحدث، وهذه تطلبت وظائف عالية التأهيل الجامعي. لم تكن الهجرة السبب في اختفاء الوظائف المخصصة للعمال ذوي البشرة البيضاء، إنما كان السبب هو تقاعس الحكومات الأميركية التي تهيمن عليها مصالح قوى المال والأعمال عن تأهيل القوى العاملة البيضاء وتدريبها للعمل في الصناعات ذات الطبيعة التكنولوجية. فضّلت عليهم الاعتماد على عمالة وظروف إنتاج أرخص وضرائب أقل في دول فقيرة أو على استخدام المهاجرين من أميركا الوسطى ومن هنود آسيا.
هؤلاء العمال البيض العاطلون عن العمل كانوا القاعدة التي اعتمد عليها ترامب في حملته الانتخابية، وكانوا القوة الفعلية التي حققت فوزه على هيلاري مرشحة الشركات وقوى المال والأعمال. هكذا بدا الأمر كما لو أن السيد ترامب يحمل لواء الدفاع عن العرق الأبيض المهدَّد من جانب المهاجرين الملونين، سواء جاءوا من أميركا اللاتينية عبر المكسيك أو جاءوا من الشرق الأوسط. وقد اتضح لنا من خلال الجدل الذي دار حول هذه المشكلة أثناء الحملة الانتخابية أن للمشكلة أبعاداً كثيرة خلافاً لبعد المهاجرين، مثل تقاعس الحزبين «الديموقراطي» و «الجمهوري» عن الاهتمام بأحوال هذا القطاع المهم في المجتمع الأميركي. إلا أن تضخيم ترامب لمسألة اللون والعرق أشعل ناراً كانت تحت الرماد. كان يعلم، بل كنا نعلم أن التفرقة والمشاعر العنصرية لم تنته بعد، بخاصة بعد عام أو أكثر من الاشتباكات اليومية تقريباً بين الشرطة وتجمعات من الشباب السود. مرة أخرى استعجلت قوى لها مصالح شتى إصدار أحكام مبكرة على ولاية باراك أوباما. الآن يقولون إنه، وهو أول رئيس أسود، سوف يترك التفرقة العنصرية في حال أسوأ كثيراً عن حالها عندما استلم السلطة. كذلك سوف يترك العلاقات بين الأغلبية البيضاء والأقليات السمراء والصفراء في وضع توتر لم تشهد البلاد مثله منذ عشرات السنين، وبالتحديد منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي.
خطر على ذهني أنه ربما كان ما يحدث في أميركا أمراً طارئاً يزول بجهود المؤسسة الحاكمة فور أن تلتقط أنفاسها وتضمد جراحها وتلم أطرافها التي بعثرها الرئيس المنتخب حين تصدى لها منفرداً ومجرداً من معظم أسلحة الحرب الانتخابية المألوفة. بعدها وقفت أتأمل في حال أوروبا، هذا المشروع الاندماجي الهائل. ليس بعيداً في الزمن ولا في الأهمية ولا في التداعيات الاستفتاء الذي أجرته حكومة كاميرون وبنتيجته خرجت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. في خضم النقاش الدائر الآن حول علاقة الاستفتاء بانكسار العولمة، توقفت عند ثلاث محطات. توقفت عند السبب الذي من أجله صوّت الانكليز أو غالبيتهم للخروج من الاتحاد، وهو رغبتهم في تخليص سيادة بلادهم من هيمنة بيروقراطية الاتحاد، ورغبتهم في وقف الهجرة التي استولت على الوظائف. توقفت ثانياً عند التصريحات والمواقف العنصرية من جانب قادة سياسيين من نوع تصريحات ومواقف ترامب. هؤلاء يزعمون أن الجنس الأبيض، ويقصدون الشعب الأصلي في المملكة المتحدة، يكاد يفقد أغلبيته المطلقة في بلاده منذ أن فتح حدوده للأوروبيين «الملونين»، ويقصدون شعوب شرق ووسط أوروبا. توقفت ثالثاً عند المواقف المتشددة التي بدأ يتخذها أكثر من رئيس دولة في أوروبا الشرقية مثل بولندا والمجر ورؤساء أحزاب أو حركات سياسية كما في ألمـــانيا وفرنسا والدنمارك وهولندا والنمسا، كلها مواقف تعبر بكل الوضوح عن شروخ في مسيرة الاندماج في الاقليم الأوروبي. بكلمات محدودة، يبدو واضحاً أنه كما أن اندماج الولايات المتحدة صار موضع شك وكذلك مشاريع اندماج أميركا الشمالية، فإن استمرار مسيرة اندماج أوروبا كما يظـــهر من الحال الراهن للاتحاد الأوروبي و «حلف الأطلسي» هي كــــذلك موضع شك.
عند الحديث عن حال النظام الإقليمي العربي لا أجد الكلمات المناسبة، فالشروخ صارت كسوراً والانفراط وقع والأمة تبعثرت منذ أن فقدت غالبية قياداتها السياسية والفكرية هبة النطق.