ترامب يدشّن مدرسة جديدة في السياسة..بقلم: جميل مطر

ترامب يدشّن مدرسة جديدة في السياسة..بقلم: جميل مطر

تحليل وآراء

الخميس، ١ ديسمبر ٢٠١٦

ما هي إلا أيام قليلة وتبدأ حلقة جديدة في حلقات أحدث مسلسل للفن الواقعي، المسلسل الذي اختار دونالد ترامب أن يلعب فيه دور البطولة. تبدأ الحلقة الجديدة بانتقال العائلة من أبراج ترامب وقصوره إلى البيت الأبيض لتتولى من هناك إدارة أحدث مشروعاتها العقارية، مشروع بحجم الولايات المتحدة وباتساع الكوكب. لا مبالغة في هذا الوصف لطبيعة المرحلة الجديدة في التاريخ الدبلوماسي الأميركي بالنظر إلى القلق الواضح الذي أصبح يهيمن في عواصم عديدة، وإلى المناقشات الصريحة الدائرة حالياً في الدوائر الدبلوماسية وأجهزة صنع السياسة الخارجية.
حدثان لفتا نظر محللين وبعض الحياري من المعلقين المتخصصين في السياسات الخارجية للدول. لفتت نظرهم السرعة الفائقة التي جاء بها ردّ فعل أعلى أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية على فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. قيل في تحليل وتبرير هذه السرعة في صدور رد الفعل المصري. وبهذه الدرجة من الثقة في النفس وفي القرار وفي سرعة اتخاذه أن الأجهزة المصرية لا بد أنها توصلت في روسيا لمعلومات مؤكدة عن الاتجاهات الحقيقية للرئيس الجديد، وهي معلومات بلا شك مختلفة عن اتجاهات كثيرة في الخطاب الانتخابي. قيل أيضاً في تحليلات أخرى ليست بعيدة عن هذا التحليل إن هذه الأجهزة المصرية ربما تكون قد حصلت على تطمينات، وليس فقط معلومات، باعتبار ما تسرّب وتأكد عن تدخل متشعب من الجانب الروسي في الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية واختراق للجماعة المحيطة بالمرشح «الجمهوري». المهم في هذه الاجتهادات وغيرها هو الفضول الشديد في الدوائر الإعلامية والدبلوماسية لمعرفة مصادر فهم الرئيس المصري لبرنامج وخطط المرشح الأميركي ودوافع اقتناعه بأنها تخدم المصالح المصرية. هذا الاقتناع الذي دفعه ليكون الأول بين الملوك والرؤساء المهنئين.
جاءت المفاجأة الثانية من اليابان. لم تمض ساعات على إعلان الفوز والتهنئة المصرية بهذا الفوز إلا وكانت طوكيو تعلن أن رئيس وزرائها استقلّ بالفعل طائرة متوجهاً إلى الولايات المتحدة ليلتقي الرئيس المنتخب. لم يذهب ليهنئ ولكن ذهب ليفهم حتى يطمئن أو ليعدّ عدته لنمط جديد من علاقات التحالف بين البلدين. تراءى لمعلقين ومحللين مخضرمين أن المسؤول الياباني ما كان ليغادر طوكيو ويطلب اجتماعاً عاجلاً مع شخص بالكاد ظهرت نتائج ترجح فوزه، إلا لو أن لديه ولدى اليابان ما يسبب قلقهما، وأنهما لم يتعرفا بالدقة الواجبة على نياته وبخاصة تجاه قضية التحالفات العسكرية ومسألة احتواء الصين وموضوعات التجارة الدولية والحماية الجمركية. أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه الاجتهادات في هذه المرحلة المبكرة في عملية انتقال السلطة في عاصمة بأهمية واشنطن هو أن الفرق بين الحدثين، مفاجأة التهنئة المبكرة للغاية من الرئيس المصري ومفاجأة رحلة الزعيم الياباني إلى أميركا للاجتماع بالرئيس المنتخب هو الفرق بين حجم ونوع القضايا ذات الأولوية في علاقة كل من الدولتين بالولايات المتحدة من وجهة نظر حكومتيهما ونيات دونالد ترامب تجاههما.
كان ترامب، على امتداد حملته الانتخابية، واضحاً في نيته عدم التدخل في شؤون وأساليب الحكم في الدول الأخرى. أعلن أنه لن يستمر على نهج الرؤساء من بوش الابن حتى باراك أوباما الذين فرضوا درجة أو أخرى من الالتزام بأخلاقيات تحترم القواعد الدستورية والقانون وتداول السلطة سلمياً والمشاركة في الحكم وممارسة الحريات وتمكين الأقليات والنساء. لا جدال في أن هذا النهج ظل مصدر إزعاج لكثيرين من حكام العالم النامي، وكذلك حكام شرق أوروبا والصين وروسيا وجماعة الحكم العسكري في تايلاند وميانمار. لذلك كانت إشارة السيد ترامب أنه لن يهتمّ بهذه الأمور مصدر سعادة لهؤلاء الحكام، وربما كانت السبب وراء إسراع رئيس مصر بالتهنئة والفرحة التي عمت أوساط أجهزة الحكم ودوائر قريبة من الطبقة الحاكمة المصرية. لا يخالجني أدنى شك في أن الرئيس ترامب، القادم لتوّه من أسواق العقارات والمنشغل حتى قمة شعره بعقد الصفقات، سوف يطالب هؤلاء الحكام في أول فرصة تسنح له بتسديد نصيبهم في هذه الصفقة، أي مساعدته في تحقيق هدف استعادة «عظمة أميركا»، بحسب تعبيره.
على الناحية الأخرى كان معظم تصريحات السيد ترامب عن مسؤوليات أميركا في تحقيق الأمن في عديد الأقاليم وعن تكاليف الدفاع عن الدول الحليفة وعن هجرة الاستثمارت الأميركية إلى الخارج وعن مستقبل علاقات بلاده بالدول والشركات المصدرة والمنتجة للطاقة. هذه وغيرها من التصريحات الملتهبة تسبّبت في نشر القلق وعدم التأكد في دول عديدة. القلق يجتاح أوروبا وبخاصة الدول الواقعة إلى الغرب من ألمانيا بما فيها المملكة المتحدة، وهي نفسها متمرّدة على أوروبا. يجتاح أيضاً دولاً في جنوب شرق آسيا ويضعها جميعاً أمام خيارين لا ثالث لهما. الخيار الأول هو الارتماء في أحضان الصين الآن أفضل من الانتظار للخضوع إجباراً في المستقبل. أما الخيار الثاني فهو الدخول مع الصين في سباق تسلح، برغم تكلفته الباهظة. نعرف أن الخيار الأول لم يعدم رئيس الفلبين دوتيرتي زبوناً، إذ لم يسمح للفرصة أن تضيع فارتمى في أحضان الصين واشتبك على الفور مع أميركا حليف المئة وخمسين عاماً الماضية. نعرف كذلك أن للخيار الثاني زبائن ليس أقلهم شأناً ونفوذاً اليابان والهند وأستراليا. الجميع على كل حال، في آسيا كما في غيرها، لن يتأخر عن دفع «الجزية» من خلال صفقات دفاعية وتجارية مناسبة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
لا أتوقع أن تكون سهلة مسيرة التغيير في السياسة الخارجية الأميركية على وقع أقدام ترامب الثقيلة وتقلباته المزاجية ومواقفه المتمردة على الطبقة الحاكمة. تزداد توقعاتي بصعوبة المسيرة مع كل توتر جديد يصيب العلاقات بين أطراف «حلف الأطلسي». وهي أصلاً متوترة، ومع كل انحدار جديد تتدنّى إليه المكانة الأميركية وهي أصلا متدنية، ومع كل درجة تصعدها روسيا على سلم «الامبراطورية» والتوسع، ومع كل فوز جديد تحققه الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، ومع كل زعيم في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية تحلو له إقامة نظام شعبوي على أطلال أو هياكل ديموقراطية، وأخيراً وليس آخراً، مع كل خطوة تبتعد فيها سياسات دول الشرق الأوسط عن مبادئ ثورات «الربيع العربي» وشعاراتها.
سمعت من متابعي مسلسلات تلفزيون الواقع ونقّاد الشاشة الصغيرة أن أكثر مشاهديها لا ينتمون إلى مستويات ثقافية أو أخلاقية طيبة، وأنهم، مثل ترامب نفسه، يكثرون من استخدام العبارات السوقية والخارجة عن آداب اللياقة والمؤذية للصحة النفسية للآطفال. سمعت أيضاً عن أن مدمني تلفزيون الواقع انتهوا مدمنين للكذب. أنا شخصياً لا أنكر انبهاري بقدرة الرئيس المنتخب على الكذب كما كشفت عنها الحملة الانتخابية. والآن وقد استعد لدخول البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة لا أنكر قلقي على مصير مرحلة في العلاقات الدولية كانت لها إيجابياتها.