الحرب الباردة الجديدة: إلى أين ستمضي في عهد ترامب؟

الحرب الباردة الجديدة: إلى أين ستمضي في عهد ترامب؟

تحليل وآراء

السبت، ٣ ديسمبر ٢٠١٦

يصعب إعطاء تواريخ دقيقة للحروب التي لا تستخدم البارود؛ فالبعض يعتبر أن الحرب الباردة قد انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي، نهاية عام 1991، فيما يعتبر آخرون أن سقوط جدار برلين، نهاية عام 1989، هو اللحظة الفارقة المميزة لنهاية الحرب الباردة. تحديد لحظة اندلاع الحرب الباردة كذلك ليس بالأمر السهل؛ فالبعض يعتبر أنها بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية في المسرح الأوروبي، في أيار 1945، وآخرون يعتبرون خطاب وينستون تشرشل في آذار 1946، المعروف بخطاب «الستار الفولاذي»، والذي دعا لتحالف بريطاني أميركي لمواجهة السوفيات، بداية تلك الحرب، فيما يؤكد آخرون أن الحرب اندلعت عام 1947 مع تبلور عقيدة ترومان الهادفة لاحتواء الاتحاد السوفياتي.
الصعوبة نفسها تنسحب على تحديد بداية الحرب الباردة الجديدة. في مؤتمر الأمن في ميونيخ، في شباط الماضي، تحدث رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف، للمرة الأولى، عن أن العالم قد دخل حرباً باردة جديدة؛ لم يخرج أحد في الغرب لينكر أن العالم بات يعيش حرباً باردةً جديدةً. لم يحدد ميدفيديف، أو غيره، متى بدأت هذه الحرب الباردة؛ ربما بدأت مع الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم مطلع عام 2014، أو ربما قبل ذلك مع المقالة التي نشرها فلاديمير بوتين، يوم كان رئيساً للوزراء، في تشرين الأول 2011، وتحدث فيها عن مشروع اقتصادي لتوحيد منطقة أوراسيا، أو ربما قبل ذلك مع الحرب الجورجية الروسية صيف عام 2008. الغالب أن التركيز الآن هو على مسار الحرب نفسها.
الحرب الباردة في عهد أوباما
برغم أن أوباما كان قد افتتح عهده بالتقارب مع روسيا، عبر ما عُرف بعملية «إعادة تشغيل» العلاقات الروسية الأميركية، إلا أن تلك العلاقات ما لبثت أن تأزمت بعد تراكم مجموعة من العوامل، على رأسها استمرار واشنطن بتطوير برنامج الدرع الصاروخية، ودعمها لعملية استبدال الأنظمة في عدد من دول العالم، بينها سوريا وليبيا وأوكرانيا. كما أن تنامي القدرات الاقتصادية والعسكرية الروسية، وإعلان موسكو عن حزمة هائلة من مشاريع تطوير القوات المسلحة الروسية، أثار مخاوف واشنطن التي سحبت في النهاية غصن الزيتون الذي كانت قد مدته لموسكو. ذروة الصدام، من دون شك، كانت مع ضم موسكو شبه جزيرة القرم الاستراتيجية حيث يقع ميناء سيفاستوبول، الذي طالما حثت واشنطن كييف على إلغاء عقد تأجيره لموسكو بغرض حرمان الأخيرة من منفذ مهم يوصل إلى مياه المتوسط الدافئة.
تفجر العداء علناً بين موسكو وواشنطن، وفرضت الأخيرة حُزماً من العقوبات الاقتصادية والسياسية على موسكو. وليس من المستبعد أن تكون واشنطن قد ضغطت على بعض دول «أوبك» لزيادة المعروض من النفط في الأسواق العالمية لتوجيه ضربة أخرى لموسكو. ما يدعم هذا التصور هو أن أسعار النفط قد تحسنت في كل مرة تظهر فيها موسكو وواشنطن جنوحاً نحو التعاون، كما حصل في شهر شباط الماضي عندما اتفق الطرفان على اتفاق وقف العمليات القتالية في سوريا؛ كانت تلك، على أي حال، لحظاتٍ متفائلة قصيرة العمر. وبينما حاولت موسكو التكيف مع هذه العقوبات التي أثرت بوضوح على المشاريع العسكرية الروسية، تابعت واشنطن الضغط عبر دفع حلف «الناتو» للتوسع شرقاً والاقتراب من الحدود الروسية. فجأةً، بدا وكأن أوروبا قد قفزت عبر آلة الزمن عائدة إلى ثمانينيات القرن الماضي. التحشيد العسكري والتوتر على أشده. والجيش الأميركي عاد لينفذ أنواعاً من التمارين كان قد أوقفها منذ عقود. على سبيل المثال، في العشرين من حزيران الماضي نفذت طائراتٌ أميركية من طراز A-10، «صائدة الدروع»، عملية هبوط على طريق سريع في إستونيا، إحدى جمهوريات البلطيق الملاصقة لروسيا. عملية الهبوط هذه كانت في ما مضى جزءًا من التدريبات الأميركية للتعامل مع احتمال تعرض المطارات الأوروبية للقصف الروسي. وكانت واشنطن قد نفذت مثل هذا التمرين للمرة الأخيرة في عام 1984، منذ 32 عاماً.
ولكن مع اقتراب ولاية أوباما من نهايتها، ظهر أن موسكو وواشنطن تسعيان سعيا حثيثا للتقارب ونزع فتيل المواجهة. لماذا حصل هذا وهل سيستمر في عهد ترامب؟
الحرب الباردة في عهد ترامب
قد يكون التعاون في محاربة الإرهاب، وفي إيجاد حل للأزمتين السورية والأوكرانية، هو «المظلة» التي يمكن أن يلتقي تحتها الطرفان، ولكن دوافعهما للتعاون هي أعمق بكثير. فالعدو الأخطر لواشنطن اليوم، وفي المستقبل القريب، هو الصين، التي ازداد إنفاقها العسكري كثيرا خلال السنوات الماضية ليتجاوز عتبة المئة وخمسين مليار دولار (تعتقد واشنطن أن الرقم الحقيقي يزيد على مئتي مليار)، أي أكثر من ضعف الإنفاق العسكري الروسي. تنامت القدرات العسكرية الصينية كماً ونوعاً وتجاوزت التقديرات الأميركية السابقة. وفشلت الولايات المتحدة في منع الصين من تحويل الجزر الصناعية، التي كانت قد بنتها في بحر الصين الجنوبي، إلى قواعد عسكرية متقدمة باتت تهدد حلفاء أميركا في تلك المنطقة الاستراتيجية التي تمر فيها بضائع تتجاوز قيمتها أربعة تريليونات دولار سنوياً، بما فيها حوالي نصف حمولات النفط البحرية العالمية. لم يكن من قبيل المصادفة أن إدارة أوباما قد أظهرت نوعاً من المرونة غير المسبوقة خلال الأشهر الماضية في علاقتها مع موسكو، في اللحظة نفسها التي أظهرت فيها الصين رفضها لقرارات التحكيم الدولي حول ترسيم الحدود البحرية في بحر الصين الجنوبي، وفي اللحظة نفسها التي بدأ بعض حلفاء أميركا الآسيويين بالانتقال إلى الضفة الصينية، أبرزهم حتى الآن هي الفلبين، وقد سبقتها تايلند، وقد تكون ماليزيا هي التالية، بعدما وقع الطرفان، مطلع الشهر الماضي، صفقاتٍ، بعضها عسكري، تجاوزت قيمتها 34 مليار دولار.
تقول بعض القراءات الأميركية أن العقوبات الاقتصادية وأسعار النفط المنخفضة، والتي قد لا تتحسن كثيراً خلال السنوات المقبلة (قدرت «أوبك» مطلع الشهر الماضي أن سعر برميل النفط سيكون بحدود 60 دولاراً بحلول العام 2020)، ستحد من اندفاع موسكو وسيجبرها على تأجيل العديد من خططها العسكرية، ما يسمح لواشنطن بالتركيز على بكين، التي تستفيد بشكلٍ كبير من أسعار النفط المنخفضة. تدرك واشنطن جيداً أن الصين، برغم تنامي قدراتها العسكرية، لا تزال تعتمد بشكلٍ حيوي على استيراد واستنساخ التقنيات والمعدات العسكرية الروسية، ولا سيما في مجالي الطيران والصواريخ. نظرةٌ واحدةٌ إلى القواعد الجوية الصينية الجديدة في بحر الصين الجنوبي ستكشف أن أغلب وأهم الطائرات الصينية هي روسية الصنع، أو مستنسخة عن التقنيات الروسية. أحدث المقاتلات الصينية، J-15، والمستخدمة على متن حاملة الطائرات «لياونينغ»، هي نسخة صينية عن «السوخوي 33» الروسية. وكانت بكين قد وقعت مع موسكو خلال السنوات الماضية العديد من الاتفاقيات للحصول على تراخيص تصنيع أسلحة روسية. مراجعة مسار هذه الاتفاقيات يظهر مقداراً كبيراً من التذبذب، فقد علقت موسكو بعض هذه الاتفاقيات مرات عدة خلال السنوات الماضية. فموسكو، وإن كانت بحاجة للعوائد الاقتصادية من عقد مثل هذه الصفقات، إلا أنها تدرك أيضاً أن تنامي القدرات العسكرية الصينية سيشكل خطراً عليها في يومٍ غير بعيد. ما تحتاجه واشنطن هنا، في صراعها مع بكين، هو تحييد موسكو قدر الإمكان. وفيما يخص الشرق الأوسط، تحتاج واشنطن كذلك لتحييد موسكو فيما يتعلق بالصراع المحتمل مع طهران، الشريك الأهم لبكين في المنطقة.
في المقابل، لا يخفى أن موسكو تسعى بشكلٍ حثيث لتجاوز العقوبات الاقتصادية والسياسية الغربية التي أثرت على العديد من المشاريع الاستراتيجية الروسية فضلاً عن أنها وضعت موسكو أمام خيارات اقتصادية صعبة، مثل خصخصة بعض أكبر المؤسسات الحكومية الروسية أو القبول بتصدير الغاز بأسعارٍ أقل، لتجاوز تأثير العقوبات وللحفاظ على حصة موسكو من السوق الدولية. ولا يخفى كذلك أن خطط التقشف والخصخصة الروسية تؤثر بشكلٍ سلبي على صورة الحكومة الروسية عند الجمهور الروسي الذي لم ينسَ تماماً أن الرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسين، قد بدأ بخطواتٍ مشابهة أوصلت الاقتصاد الروسي إلى الحضيض. والمفارقة التي يجب ألا تغيب هنا هي أن فلاديمير بوتين قد صنع شعبيته، بشكلٍ رئيسي، من خلال إلغاء مفاعيل قرارات يلتسين الاقتصادية وإعادة بناء قطاع عام روسي قوي. كذلك لن تكون هناك فائدة من الخطوات المتقدمة التي قامت بها موسكو خلال السنوات الماضية، تحديداً في سوريا وأوكرانيا، وبشكل أقل وضوحاً في ليبيا، إذا لم تترجم هذه الخطوات إلى اعتراف أميركي، وغربي، بمصالح روسيا ودورها في هذه المناطق. إذا ما أردنا تبسيط الصورة فيمكننا أن نقول إن موسكو قد خطت عشر خطوات متقدمة في هذه المناطق وإذا ما تراجعت خطوة أو خطوتين إلى الوراء مقابل قبول واشنطن ببقاء باقي الإنجازات الروسية فستنتهي موسكو، بالمجمل، إلى وضع أفضل بكثير مما كان عليه الحال في نهاية العام 2013 مثلاً.
يحتاج الطرفان، كلٌ لأسبابه، لتخفيض مستوى المواجهة الباردة الحالية. طريق المهادنة هذا لن يكون مفروشاً بالورود. فهناك أطرافٌ كثيرة تعتبر أن إنهاء الأزمة السورية يهدد مصالحها، وبإمكان هذه الأطراف أن تعمل على عرقلة أي اتفاق أميركي روسي. وفي أوروبا الشرقية، تشكل الخطوات المتقدمة التي نفذها «الناتو» والولايات المتحدة عائقاً حقيقياً أمام المهادنة الروسية الأميركية. ليس من الواضح كيف يمكن أن تنجح موسكو وواشنطن بالتعاون من دون أن تتراجع واشنطن وبروكسل، عاصمة «الناتو»، عن الخطوات الأخيرة المعادية لموسكو، وخصوصاً في أوروبا الشرقية؛ ولكن هل يمكن التراجع عن هذه الخطوات من دون المخاطرة بانهيار كل ما تم بناؤه هناك خلال السنوات الماضية؟ هناك الكثير من العراقيل، والأكيد أن موسكو وواشنطن لن تتحولا لحليفين طبيعيين، ولكنهما بحاجة للتوصل إلى «هدنة» أو «استراحة محارب».