نهاية «الرئيس العادي» هولاند..بقلم: شريف الرفاعي

نهاية «الرئيس العادي» هولاند..بقلم: شريف الرفاعي

تحليل وآراء

الاثنين، ٥ ديسمبر ٢٠١٦

في العام 2002، أعلن مرشح «الحزب الاشتراكي» لرئاسة الجمهورية الفرنسية ورئيس الوزراء آنذاك عن انسحابه من الحياة السياسية إثر هزيمته في الدورة الأولى للانتخابات وحلوله ثالثاً بعد مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن. بعدها بفترةٍ وجيزة، أصدرت زوجته سيلفيان أغليسنسكي كتاباً عن تفاصيل تلك الفترة، قالت فيه إنها أرادت أن ترسم ملامح شخصية سياسية وأخلاقية «بعيداً عن الأنماط الكاريكاتورية السائدة»، وأن تؤكد على «استقامة الرجل وحسّه العالي بالمسؤولية واحترام وعوده». ثم أضافت: «إنها بلا شك هزيمة شخصية، لكنها أيضاً هزيمة لليسار الممزق والساذج».
بعد قرابة عقدٍ ونصف من الزمن، ينسحب الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند من السباق الرئاسي المحموم قبل أن يترشح أصلاً، تاركاً اليسار الفرنسي أشد تمزقاً مقارنة بالعام 2002. والحقيقة أن أزمة اليسار الفرنسي أشد عمقاً مما يبدو، فالشخصيات التي تتصدر الواجهة لا تملك أي رصيدٍ شعبي وازن، ليس لدى المجتمع الفرنسي عامةً فحسب، إنما لدى اليسار ذاته. لا أحد يظن أن شخصيات مثل ايمانويل فالس، رئيس الوزراء الحالي، أو ماكرون، الوزير المنشق عن هولاند والذي لا يعترف بانتمائه إلى اليسار أصلاً، قادرة على إحداث مفاجأة في وجه نجم اليمين الصاعد فرانسوا فيون.
وصل هولاند إلى الرئاسة على خلفية النقمة وانحسار شعبية ساركوزي. تأبط شعار «الرئيس العادي» الذي تصدّر حملته الانتخابية. لكن حقبته لم تكن عادية: اليمين في صيغه الأكثر تطرفاً كان قد بدأ يجتاح أوروبا. حروب و «ربيع» وثورات تقلب الخرائط وتغير التركيبات السكانية والجغرافية لدولٍ كاملة جنوب أوروبا، وعالم يقترب أكثر فأكثر من انفجارات لا ضابط لها.
كانت السياسة الفرنسية تتأرجح بين المفردات الصاخبة والإمكانيات المتواضعة، سوريا مثالاً: رفع هولاند سقف مطالبه ضد النظام السوري عالياً، ثم تراجع عندما تراجع حلفاؤه. في الوقت نفسه، لم يجد غضاضة من استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولا من بيعه رتل من طائرات «رافال». الشيء نفسه جرى في الملف النووي الايراني: كان وزير الخارجية السابق فابيوس على رأس المتشددين حيال طهران... وكان الأول إلى زيارتها بعد توقيع الاتفاق النووي معها، مصطحباً معه رجال أعمال وعقود تبحث عن التواقيع.
ثم ضرب الإرهاب فرنسا مرات عدة: «شارلي ايبدو»، الباتاكلان، نيس. ولجأ هولاند إلى قانون الطوارئ، ثم إلى مشروع قانون «التجريد من الجنسية» لمن تثبت علاقته بالإرهاب. ساركوزي نفسه لم يكن ليجرؤ على الذهاب إلى هذا الحد. فاجأ القانون اليسار قبل اليمين: كيف يمكن ليسار العدالة والحقوق الوصول إلى هنا؟ سقط المشروع، واعتذر عنه هولاند في خطاب انسحابه الشهير. لم يتوقف اليسار الحاكم هنا، فعندما منعت بعض بلديات فرنسا النساء المسلمات من ارتداء «البوركيني»، وقف فالس الى جانب المنع. الجواب جاء من المجلس الدستوري الأعلى الذي اعتبر أن المنع غير دستوري وأنه يُعدّ مساساً بالحريات. شكّل الأمر ضربة أخلاقية وقانونية جديدة: رئيس الوزراء يجهل تعريف الحرية بموجب القانون المفترض أنه يحكم باسمه. مرة أخرى يضرب اليسار ذاته بذاته، ويفقد مزيداً من مصداقيته لدى أنصاره أولاً.
برغم الانتقادات التي طالت جوسبان لدى خروجه من عالم السياسة، لم يتطرق أي منها إلى أخلاقياته واستقامته. بقي محترماً في أدائه السياسي وفي مسلكه الشخصي. تقييم هولاند يختلف قليلاً، فهو رئيس الـ «بين بين»، لا يرضي أصدقاءه ولا يكسب خصومه. وإذا كان من المجحف مهاجمة هولاند على المستوى الشخصي، وهو الرئيس الذي أراد أن يكون «عادياً» والذي امتلك شجاعة الانسحاب حين شعر أن جمهوره يبتعد عنه وأن طعنات أصدقائه لم تعد تتجنبه، يبقى أن سياساته ساهمت بإيصال اليسار الفرنسي إلى حيث هو اليوم: تمزق مرير تقوده شخصيات سياسية من الدرجة الثانية من أمثال فالس وميلانشون وماكرون، يواجهون مرشحاً صاعداً هو فرانسوا فيون، بات وصوله إلى الرئاسة في أيار 2017 شبه محتم.