الدولة الحديثة بين الهوية والأيديولوجيا.. بقلم: نايف سلوم

الدولة الحديثة بين الهوية والأيديولوجيا.. بقلم: نايف سلوم

تحليل وآراء

السبت، ١٠ ديسمبر ٢٠١٦

ظهرت الدولة الحديثة كوريث للإمبراطوريات القديمة. وكانت البورجوازية كطبقة جديدة ثورية هي التي قادت هذا التحرك التاريخي، وقبل أن تحكم كطبقة مهيمنة ومسيطرة راحت تستولي على القوة الاقتصادية في المجتمع.

وبطبيعة الحال كانت الأيديولوجيا التي قادت هذا الصعود التاريخي هي العقيدة الليبرالية بشكلها الكلاسيكي والتي قدمت نماذج كبيرة من المفكرين الليبراليين التحرريين في القرنين السابع عشر والثامن عشر في كل من فرنسا وإنكلترا وحتى ألمانيا وإيطاليا.
هكذا تحددت هوية الدولة الوليدة، بعد مرحلة انتقالية ملكية، على أنها دولة بورجوازية حديثة تقوم جوهرياً على علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية، بعد تحطيم علاقات الملكية الإقطاعية القديمة. وراحت الدولة الجديدة تحمي هذه الملكية البورجوازية وتكرسها كمقدس يجب عدم المساس به تحت أي شكل من أشكال الحكم البورجوازي بما فيه البورجوازي الصغير. وكان المظهر الجديد للدولة الوليدة هي تخلصها الكبير، وحسب البلدان، من الامتيازات الدينية والإقطاعية العسكرية. إذاً، ظهرت الدولة الحديثة البورجوازية ككيان سياسي محايد تجاه العقائد الدينية وتجاه الامتيازات البيروقراطية العسكرية والعائلية الإقطاعية، ونادت بمبدأ فصل السلطات الثلاث؛ التشريعية (البرلمان) والقضائية والتنفيذية (الحكومة بوزاراتها وأجهزتها). ومع النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وتحديداً بعد فشل الثورات الديمقراطية لسنة 1848 في فرنسا وألمانيا، بدأت تظهر إيديولوجيات اشتراكية وشيوعية أكثر نضجاً وباتت الأفكار الفلسفية والسياسية الجديدة تدعو إلى دولة حديثة ذات هوية مختلفة عن الدولة الحديثة البورجوازية، وهذه الهوية الجديدة للدولة الحديثة تقوم على مبدأ الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، أو بتعبير سلبي قائمة على أساس الإلغاء الحقوقي لأي تملّك خاص لوسائل الإنتاج، بالتالي قطع الطريق على كل إمكانية لاستغلال قوة عمل الآخرين نتيجة عدم تمكين أي فرد أو عائلة أو فئة أو طبقة من تملك وسائل الإنتاج الاقتصادي في المجتمع. وجاءت كمونة باريس 1871 لتقدم أول بروفا تاريخية لبناء الدولة الجديدة ذات الهوية الاشتراكية. ومع الثورة الروسية الثانية 1917 (الثورة الأولى 1905) ظهر أول نموذج فعلي للدولة الاشتراكية في التاريخ الحديث وتتالت القائمة: الصين وكوبا وفيتنام وكوريا وفنزويلا ونيكاراغوا... وظهر للمرة الأولى في التاريخ أن البورجوازية في البلدان التي لم تنجز بعد مهمة النهوض والتحديث القومي، باتت عاجزة عن إنجاز هذه المهمة التي أنجزتها نظيرتها في البلدان السبّاقة للتطور، وراحت الطبقات الجديدة بخاصة البروليتاريا المتحالفة مع البورجوازية الصغيرة خاصة الفلاحين مرشحة تاريخياً لإنجاز مهمات البورجوازية في التصنيع والتحديث ولإنجاز مهام أكثر وهي مهمة بناء دولة ذات هوية اشتراكية. كانت الدولة الجديدة تحمل من حيث الجوهر الكثير من سمات الدولة البورجوازية مع فارق جوهري وهو نزع القداسة عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج حتى درجة إلغائها في الدستور الاشتراكي.

إن فك الارتباط بين هوية الدولة وبين أيديولوجيا الجماعة الظافرة بالسلطة أمر ضروري

يبقى أمر مهم علينا تناوله وهو عرض للأشكال الأيديولوجية للجماعات التاريخية التي استولت على سلطة الدولة الحديثة. فالبورجوازية قادت تحركها السياسي تحت راية أيديولوجية ليبرالية/ قومية داعية إلى بناء دولة – أمّة حديثة في مواجهة النزعة الكوسموبوليتية للإمبراطوريات القديمة التي سخرت ثروات وطاقات أمم مختلفة في صالح أمة معينة كالرومان والعثمانيين الأتراك على سبيل المثال. كانت القوة البيروقراطية للإمبراطورية هي التي توحّد أقضية الإمبراطورية الشاسعة، أي كان التوحيد مفروضاً سياسياً ، وكان الهدف هو الجباية الخراجية من المقاطعات ما يؤدي إلى إفقارها وإثراء مركز الإمبراطورية. وما أن يضعف المركز لسبب أو لآخر حتى تتمرد الأقضية والمقاطعات . لكنها تبقى ضمن علاقات الإنتاج الإقطاعية والخراجية نفسها، وتبقى بهوية الدولة نفسها إلى أن جاءت البورجوازية الحديثة بمشاغلها وقوتها التجارية والصناعية إضافة إلى إقحام الفلاحين في الصراع الحديث والإدارة والجيوش الحديثة، فغيرت المشهد برمته. أما الاشتراكية، فقد اعتمدت في الاستيلاء على سلطة الدولة وتحطيم سلطة البورجوازية على الفكرة الشيوعية والعقائد الاشتراكية، واعتمدت على قوة الوعي والتنظيم أكثر من اعتمادها على القوة الاقتصادية والتي اعتمدتها البورجوازية الليبرالية من قبل. ومع أزمة الدولة السوفياتية، شهدنا طبقات اجتماعية بورجوازية صغيرة تستولي على سلطة الدولة البورجوازية ذات عقائد دينية مثل «الإخوان المسلمين» في تركيا (العدالة والتنمية) والبازار أو التجار التقليديين في إيران إثر ثورة 1979 الشعبية. بقيت هوية الدولة في الحالتين بورجوازية لكن الجماعة الصاعدة إلى السلطة شوشت بعقائدها «الحزبية» والدينية على هذه الهوية للدولة. وهذا الأمر حصل من قبل في الاتحاد السوفياتي السابق حين أُبْقي الدمج بين الأيديولوجيا الاشتراكية للبلاشفة والدولة الاشتراكية التي يتوجب أن تكون علمانية وديموقراطية أي يتوجب عليها فك ارتباطها مع الأيديولوجيات الحزبية ومع العقائد الدينية بما فيها الإلحاد. فحرية الاعتقاد السياسي والديني مهمة الدولة الجديدة سواء أكانت بورجوازية أم اشتراكية. هكذا ظهر عيب كبير في سلوك الدول البورجوازية التي استولت فيها البورجوازية الصغيرة ذات الأيديولوجية الدينية أو الاشتراكية الشيوعية والاشتراكية العقائدية، كالبعث في سوريا والعراق على سبيل المثال، بحيث حاولت هذه الجماعات الاجتماعية/ السياسية الدمج بين هوية الدولة التي استولت عليها وبين عقائد الجماعة السياسية الظافرة بسلطة الدولة فظهرت الدولة كدولة حزبية (اشتراكية /عقائدية أو دينية) وبات مفروضاً على المواطنين أن يكونوا عقائديين حتى يتمتعوا بحقوق المواطنة في أوطناهم وصار معيار الانتماء للوطن والدولة هو الانتماء لحزب السلطة! إن فك الارتباط بين هوية الدولة الحديثة وبين إيديولوجيا وعقيدة الجماعة الظافرة بالسلطة أمر ضروري لبناء أبسط أسس الديمقراطية في الدولة الحديثة، فعلمانية الدولة الحديثة مهما كانت هويتها (بورجوازية أم اشتراكية) تعني حياد الدولة العقائدي «السياسي»/الحزبي والديني، هكذا تكون الدولة الحديثة دولة غير متحزّبة وغير متدينة (ولا ملحدة)؛ دولة لجميع مواطنيها، وهكذا يتأصل الشعور بالانتماء الوطني، ويتكرس احترام السلطات العامة.
*كاتب سوري