من حلب إلى بشيكتاش: أنقرة بين مأزقين!

من حلب إلى بشيكتاش: أنقرة بين مأزقين!

تحليل وآراء

السبت، ١٧ ديسمبر ٢٠١٦


تقيأت حلب من أحشائها سموم الإرهاب. وهو إرهاب الوكلاء. فيما الأصليون معروفون، ومنذ سنوات يرطنون بكل اللغات.
قبل نحو ثلاثة أشهر، وبعد هجمات للجيش السوري على أحياء المُسلّحين في حلب الشرقية، وفي ظلّ التجاذب الذي كان حاصلاً بين روسيا والولايات المتحدة حول «التفاهم» الشهير بينهما الذي لم ير النور، انزلق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، وقال إنه يُريد اتفاقاً لانسحاب المُسلّحين ولا سيما «جبهة النصرة»، وأنه أعطى تعليماته بذلك إلى الاستخبارات التركية.
ليس أبلغ من تلك الرابطة العضوية، أن تركيا كانت الطرف الذي مضى بالاتفاق وبأسرع ما يمكن. كانت تُريد إنقاذ الرؤوس التي كانت تقود المُسلّحين وتُدير معركتهم، وهم أتراك وعرب وغربيون وإسرائيليون ونُشرت أسماؤهم. ولهذا ما كان للمُسلّحين أن يخرجوا من دون أن يحرقوا أسرارهم، ويُفجّروا أنواع أسلحتهم وأجهزة اتصالاتهم التي توصل إلى ما وراء الحدود. واليوم بعد خروجهم المُذلّ من حلب، لن يجدوا ملاذاً آمناً لهم سوى ما وراء حدود إدلب، حيث يُعالجون ويُهيئون لمعارك وكالة جديدة في سوريا والقوقاز وحيث أمكن توظيفهم.
انتهت معركة حلب. غيّرت حلب موازين القوى. لن يُشوّش عليها سقوط تدمر، ولا احتلال مناطق جديدة هنا أو هناك، ولا إعلام يبكي على إرهاب عاث فساداً وفتنة في بلاد الشام كلها وأرض الكنانة. حلب غيّرت المعادلات وكسرت مشروع تقسيم سوريا، وفجّرت المشروع التركي في سوريا وفي المنطقة. حلب هي الصلوات الخمس فيما الذي تبقّى نوافل يأتي دورها. ومن صمد ضدّ أعتى حرب كونية منذ ست سنوات، وأنجز ما أنجز، لن تصعب عليه الأمتار الأخيرة من معركة التحرير الكامل ولو استغرق ذلك سنوات أخرى. حلب منحت الانتصار لمحور المقاومة ولكل محبي الحياة والسلام ونقطة على السطر.
ـ 2 ـ
غطّت الخطوات الأخيرة في اليومين الماضيين لتحرير حلب على التفجير الدموي قرب ملعب بشيكتاش في اسطنبول الذي أسقط 44 قتيلاً معظمهم من البوليس.
بعد كل تفجير في تركيا تتوجّه الاتهامات الرسمية مباشرة إلى ثلاث جهات: حزب «العمال الكردستاني»، تنظيم «داعش» وجماعة فتح الله غولن.
وبعد تقييم للوضع، وأين تكمن مصالح النظام، يتمّ حصر التهمة في تنظيم واحد منها. الاتهام يتحدّد وفقاً لما ترغب السلطة فعله لا وفقاً للأدلة التي تمّ التوصّل إليها.
إذا كان الأمر مُتصلاً بتحريك للوضع في سوريا في اتجاه النظام السوري، يتمّ حصر التهمة بـ «داعش» على أساس أنه يُمكن التقدّم ميدانياً في الداخل السوري بما يضعف النظام.
لا شبهة في أن «داعش» ليس مسؤولاً عن أي تفجير يستهدف صورة تركيا أو المصالح التركية المُباشرة. وهو لم يتبن رسمياً أي تفجير مهما كان نوعه. وكل التفجيرات السابقة التي نُسبت إلى «داعش» كانت وفقاً لزعم السلطات التركية فحسب. والاتهام كان يهدف لتبرير حركة عسكرية تركيا هنا أو هناك، وأهمّها إطلاق صواريخ على مدينة كيليس من أراض يحتلّها التنظيم الإرهابي في سوريا من أجل تبرير دخول القوات التركية إلى جرابلس وما بعدها.
أما اتهام حزب «العمال الكردستاني» فقد يجد بعض مُبرّراته على أساس أنها حرب مفتوحة بين الطرفين منذ عام 1984. لكن لماذا لم يقم الحزب بأي عملية عسكرية منذ أواخر عام 2012 وعلى امتداد سنتين ونصف؟ الجواب أنه كانت تُوجد عملية سياسية مع الدولة التركية انتهت باتفاقية «دولما باهتشه» في شباط 2015. ولكن هزيمة حزب «العدالة والتنمية» في انتخابات 7 حزيران 2015، دفع بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات وتسعير النزعة القومية للعودة إلى السلطة في انتخابات مُبكرة، كان الانقلاب على اتفاقية «دولما باهتشه» في أساسها وتجلّت لاحقاً بتفجيرات ترويع للكتلة الكردية وبيد عناصر من «داعش» استخدمتهم الدولة التركية.
أمام هذا الوضع لم يقف حزب «العمال الكردستاني» مكتوف اليدين فنهض للدفاع عن نفسه وناسه الكرد في المناطق الكردية وأحياناً عمل على ممارسة ضغوط على الدولة بعمليات خارج المناطق الكردية من دون أن يعني بالضرورة أنه وراء هذه العملية أو تلك، والتي يدخل في نطاق الشبهة بها عدد كبير من الجهات على الرغم من أن منظمة «صقور حرية كردستان» تبنّت، في بيان لها، عملية التفجير التي تُوصف بأنها «مُقرّبة» من حزب «العمال الكردستاني». وما فعلته سلطة حزب «العدالة والتنمية» من عمليات إبادة واستئصال وتخريب وتدمير في المناطق الكردية يجعل من المستغرب ألا تقوم عمليات ردّة فعل وليس قيام مثل هذه العمليات. فإذا سُئل عمن جاء بهذه التفجيرات إلى تركيا ومدنها لتوجب توجيه أصابع الاتهام إلى الحكومة نفسها لا إلى أي جهة أخرى.
أما وضع جماعة غولن من بين المُتّهمين بهذه العملية أو تلك فلم يعد بحاجة بعد الانقلاب العسكري إلى تبريرات للاستمرار في ملاحقة الجماعة التي تحوّلت إلى العدو الأول لسلطة حزب «العدالة والتنمية» إلى قيام الدين.
لكن نتيجة حاسمة واضحة أثبتها تفجير بشيكتاش، وهو أنه وجّه ضربة كبيرة إلى العقيدة العسكرية التركية الجديدة، التي تقول بمحاربة «الإرهاب» في أوكاره خارج تركيا. فرفع هذه العقيدة الجديدة لم يمنع استمرار التفجيرات في الداخل، ما يُوجب إعادة النظر في العقيدة الجديدة التي ليست سوى ذريعة لتبرير التوسّع في العراق واحتلال أجزاء من شمال سوريا.
ـ 3 ـ
إذا كانت مُواجهة السياسات القمعية للنظام التركي تعبّر عن نفسها أحياناً بعمليات مقاومة عسكرية، فإن البلاد مقبلة على مُقاومات من نوع آخر، مع تقدّم عملية الانتقال إلى نظام رئاسي ليس فيه شيء من الأنظمة الرئاسية المعمول بها في العالم، وإنما هو تسمية مُلطّفة للعودة إلى النظام العثماني الذي كان قائماً ما قبل صدور التنظيمات العثمانية في عام 1839، وتجاوز لكل الدساتير منذ عام 1876 وصولاً إلى دستور انقلاب عام 1980 الذي لم يصل في استبداده إلى ربع ما وصل إليه مشروع الدستور الجديد الذي أُرسل قبل أيام إلى البرلمان لإقراره وإحالته على استفتاء شعبي.
على ماذا ينصّ مشروع الدستور الجديد؟
1ـ يُلغي الدستور موقع رئيس الحكومة وتنتقل كل الصلاحيات إلى رئيس الجمهورية.
2 ـ يُعيّن رئيس الجمهورية الوزراء ويُقيلهم وتتمّ مساءلتهم أمامه.
3 ـ يُمكن لرئيس الجمهورية أن يكون حزبياً، وتطبّق هذه المادة على الرئيس منذ لحظة إقرار الدستور. أي إن رئيس الجمهورية اليوم يُمكن أن يعود إلى رئاسة حزب «العدالة والتنمية» إذا أراد.
4 ـ يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد خمس سنوات أخرى بدءاً من عام 2019، أي تاريخ نهاية ولاية الرئيس الحالي. ويُمكن للرئيس الحالي رجب طيب اردوغان أن يترشّح حينها وفقاً للنظام الجديد، كما لو أنه يترشّح للمرة الأولى من دون أن تُحسب ولايته الحالية. أي إمكانه الترشّح وتجديد الترشيح في عام 2024، ليكون أمامه احتمال البقاء رئيساً للجمهورية حتى عام 2029. فتكون ولايته العامّة، منذ عام 2002، 29 عاماً.
5 ـ وبيد رئيس الجمهورية صلاحيات تعيين معظم المُوظّفين الكبار، ومنهم رؤساء الجامعات في الدولة وفي المؤسسات القضائية. ومن الصلاحيات حقّ فسخ البرلمان عند نشوب أزمة بينه وبين الرئيس. كما أن للبرلمان الحقّ في حلّ نفسه بنسبة معينة من الأصوات. كما للرئيس لا البرلمان حقّ اعلان حال الطوارئ.
6 ـ لا يجمع الدستور بين الوزارة والنيابة، وعلى من يتولّى الوزارة من النواب أن يستقيل من دون إجراء انتخابات نيابية فرعية، بل تعيين من كان خلفه مباشرة من النواب الراسبين في الدائرة.
7 ـ تقليص عدد الأعضاء العسكريين في مجلس الأمن القومي، واقتصارهم على رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، واستبعاد القائد العام للدرك من عضويته.
8 ـ يُرفع عدد النواب إلى ستمئة (الآن هو 550 نائباً) مع خفض سنّ الاقتراع إلى 18 عاماً (الآن 21 عاماً).
9 ـ ومن شروط ترشّح أي شخص للرئاسة أن يكون حائزاً تعليما عاليا من دون أن يُحدّد إجازة جامعية وهو ما يجد حلاً للنقاش الذي دار في ما إذا كان اردوغان نفسه يحمل شهادة جامعية أم مُجرّد شهادة من معهد عال.
لا شك بأن مشروع تعديل 21 مادة من الدستور الحالي يعني تغييراً جذرياً في النظام. وهو ما يعني أن يكون الرئيس المُقبل من عرق تركي نظراً لغلبة العنصر التركي، وثانياً أن يكون سنّياً نظراً لغلبة العنصر السني. وثالثاً أن يكون من الخط الإيديولوجي القومي ـ المذهبي الذي يعتنقه اردوغان مُضافاً إليه نواب وقاعدة حزب «الحركة القومية».
والسؤال هنا عن الأسباب التي دفعت بزعيم حزب «الحركة القومية» لتأييد التعديلات الدستورية التي تصب بالكامل في مصلحة رجب طيب اردوغان ولا تخدم تنامي قوة الحركة القومية بل تُعرّضها للذوبان.
يُقفل النظام المقترح الباب إلى الأبد لوصول مُرشّح كردي أو علوي أو علماني إلى الرئاسة وربما يكون هذا من عوامل تأييد باهتشلي الذي غلّب نزعته القومية التركية وتالياً السنّية. لكنه يُقفل الباب أيضاً على وصول مُرشّح من حزب صغير مثل الحركة القومية. وهنا ليس واضحاً ما إذا كان باهتشلي قد تلقى وعوداً مُحدّدة مثل أن يكون نائب الرئيس في عام 2019، أو أن يضمن بقاءه في البرلمان وهزيمة حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي من خلال دخول الانتخابات ضمن تحالف مع حزب «العدالة والتنمية»، وربما دخول حزب «الحركة القومية» في الحكومات التركية المقبلة ويكون جزءاً من السلطة الجديدة. وهو ما لا يعارضه اردوغان ما دام الدستور يعطي كل شيء لرئيس الجمهورية ولا يؤثر فيه أن يكون حزب «الحركة القومية» جزءاً من الحكومة أو السلطة عموماً.
أما الثغرة الكبرى في الدستور الجديد فهي أنه وُضع باتفاق بين حزبين قوميين إسلاميين ومن دون التفاوض والاتفاق مع مُكوّنات أساسية في البلاد، مثل العلمانيين والكرد والعلويين وكل القوى الأخرى. أي إن الدستور الجديد أحادي الجانب، ويُهمّش كل المُكوّنات الأخرى كأنها غير موجودة، وهو ما يفترض أن يُراكم أسباب الانفجار، وتكون له نتائج سلبية على اللُحمة الاجتماعية الداخلية فضلاً عن وحدة البلاد.