فاطمة التي «غزت» دمشق.. بقلم: عبد الله زغيب

فاطمة التي «غزت» دمشق.. بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٦

بدت فاجعة التفجير الانتحاري الذي نفّذته فاطمة ابنة السبع سنوات في قسم شرطة الميدان الدمشقي قبل أيام، وكأنها حادثة عابرة في المعترك السوري. فالحرب هناك تخطّت في عمليّة «صناعة الآلام» الخطوط الحمر، في ظل تفتّت واضح في «المظلّة الأخلاقيّة» غير الخاضعة للحسابات السياسيّة أو العسكريّة. الجريمة الموثقة بالصورة والصوت شكّلت جزءا أساسيّا من إدارة العديد من الجماعات المسلّحة معاركها، مثلما كان للغزارة النارية «النظاميّة» دور أيضا في إنتاج المآسي. لكن المعطى المختلف اليوم، في «غزوة دمشق» تحديدا كما سماها الوالد «المفترض» للطفلة، جاء في تعبير العمليّة عن حالة عامة تسود الأوساط «الجهاديّة» الإسلاميّة، تقوم على إدراج «الطفولة» في الهيكل الوظيفي التنظيمي كجزء من «الأدوات» المتاحة للمعركة.
قبل شهور عدة من اليوم خرجت «اليونيسف» بتقرير عنوانه «ما وراء شيبوك»، وثّقت فيه ارتفاع عدد الأطفال المستخدَمين في عمليات انتحاريّة من أربعة أطفال خلال العام 2014 الى أربعة وأربعين طفلا وطفلة العام 2015، وذلك في منطقة جغرافيّة محصورة بحوض بحيرة تشاد (أكثر من 75 في المئة من الأطفال من الفتيات)، بعد عامين على خطف «بوكو حرام» 276 تلميذة من منطقة شيبوك. ما يعني حكما أن إعادة «استثمار» للفتيات تحصل، بما يجعل منهنّ عناصر في «رؤية» الجماعة الموالية لـ «تنظيم الدولة» في صراعها الأفريقي. وهذا يشكل مؤشرا مباشرا على حيّز «المناورة الأخلاقيّة» المتاح لهذه الجماعة، وفقا لبنيتها الفكريّة وخلفيتها العقائديّة «السلفيّة الجهاديّة». وهو حيّز يمتد على طوال الخط «الجهادي» الساخن من نيجيريا إلى أقصى شرق القارة الآسيويّة.
وعلى مسافة لا تقل عن ثلاث سنوات من صدور «ما وراء شيبوك»، كانت المقاطع المصورة القادمة من منطقة وزيرستان بمثابة الدليل النهائي على أن صناعة «الجهاديين الصغار» قد بدأت وبوتيرة إنتاج تلاقي طموحات التنظيمات هذه وحاجاتها في ساحات الانخراط المتعدد، حيث دأب حزب «التركستان الإسلامي» على تعزيز نشاطه في المنطقة الواقعة بين أفغانستان وباكستان، من خلال إعداد وتدريب أطفال دون الـ 12 سنة من العمر على عمليات تفجير وقتل بالمدافع الرشاشة والمسدسات، وذلك كقوة عسكريّة وأمنيّة باسم «جيش الطفولة» المؤلف من صغار الأفغان بشكل خاص وبعض أطفال «الايغور» من تركستان الشرقية، المعروفة بمقاطعة «شينغيانغ» الذاتية الحكم بأقصى الشمال الغربي من الصين، حيث الصدام الدائم بين هذه الأقليّة والإدارة الصينيّة المحليّة.
وما بين «شيبوك» و «جيش الطفولة» نماذج لا تقل حدّة في الاعتماد على النصوص التاريخيّة الدينيّة الملتبسة، في سياق من عمليات «أدلجة» الصراع وأدواته (مهما كان صراعا واضح الخلفيات والأهداف)، وكذلك في شيطنة الخصم وتطويب أبواب الجنة، لترسيخ تصوّر جمعي مفاده أن المعركة امتداد للحرب بين «الكفر» و «الإيمان»، بما يفتح المجال أمام التظيمات هذه لإعادة استخدام الترسانة التاريخيّة الإسلاميّة المتخمة بنصوص الجريمة «المُسندة». وهو ما يعني تجاوزا دائما للمُجمَع عليه من أحاديث وشرائع وشروط لدى «المذاهب والمدارس» باستثناء أصحاب الاتجاه «السلفي الجهادي» وفي مقدمها شرط: «أن يكون «المجاهد» بالغا تحقيقا للقدرة على القتال».
مما «يُجمِع» عليه أهل كبار المذاهب الإسلاميّة أن الصبي لا يُطالَب بالجهاد لعدم الأهليّة وانعدام التكليف، بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر الذي قال: «عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة». وهذا باب في شروط الحرب حدد فيه «المُشرِّع» سِنَّ «الجهاد» بخمس عشرة سنة ارتكازا الى أحاديث وروايات «مسندة».
هنا لا يفترض بالأمر أن يتحول الى مقاربة «شرعيّة» أو نقاش في «المصاديق». فالحالة المتواجدة بين أيدينا من شهيدة «التضليل» فاطمة إلى «أشبال الخلافة» لدى «تنظيم الدولة»، باتت تتطلب معالجة راديكاليّة. علما أن إشكاليّة انخراط الأطفال في القتال تتجاوز التنظيمات الإسلاميّة «الجهادية» وهي من الظواهر التاريخيّة المتنقلة التي استخدمها معظم المتقاتلين وفي مختلف الجبهات بمعزل عن هوياتهم الثقافيّة وخلفياتهم العقائديّة.
في مقابل أدوات المعالجة «الفوقيّة» المتاحة والممكنة لهذه الظاهرة، تذهب الحاجة الكبرى في إنتاج ديناميّة داخل المؤسسة الدينيّة المُصنِّعة لـ «القاعدة» وأخواتها، نحو إعادة دراسة الأدبيات والأدوات بما يمكن «العقيدة» هذه من منافسة المذاهب الأخرى على الرقعة الجغرافية والثقافيّة الواحدة، ضمن سياقات استقطاب طبيعيّة لا تشكل فيها وسائل الترهيب والموت والقتال أساسا في بسط السيطرة واعلان «الخلافة». إذ غالبا ما أفضت الوسائل هذه الى نماذج «مارقة» غير قابلة للاستمرار والاندماج في محيطها القريب قبل الإقليم والعالم. غير أن القدرات العسكريّة المرحليّة والنجاحات التكتيكيّة وفي مقدمها «الصدمة والرعب»، أوصلت الهياكل التنظيمية هذه إلى النتيجة الانكفائيّة المهزومة ذاتها على مراحل متعددة، بمعزل عما تخلّفه وراءها من مآس اجتماعيّة عابرة لحدود الزمن.
شهادة فاطمة القسريّة لم تأتِ كتعبير خالص عن «اندماج» غير مسبوق بين الأرض والسماء، ولا كتجاوز لمتاع الدنيا وانكباب على «الجهاد في سبيل الآخرة». وهي بالتأكيد لم تكن واحدة من ردات الفعل المحبطة الناتجة عن المأساة السوريّة. المسألة تتخطى التبسيط هذا. فعمليّة «القتل عن بعد» جاءت لتعلن فصلا جديدا من فن الحرب وتكتيكاتها الصادمة، مهما كان الإحساس العام بقرب انتهاء المعركة قويا. هذا الفصل يتجاوز نظريّة «الذئب المنفرد» إلى «العائلة المستذئبة»، وهي مقدمة لصناعة «الجريمة الأخلاقيّة» الكبرى، الخاضعة لتوثيق دائم، على أن يكون العالم مسرحها وأرضيتها الخصبة للتوالد والتكاثر.