عن «العزلة» الأميركية.. بقلم: نعوم تشومسكي

عن «العزلة» الأميركية.. بقلم: نعوم تشومسكي

تحليل وآراء

الجمعة، ٣٠ ديسمبر ٢٠١٦

في 23 كانون الأول 2016، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 2334 بالإجماع، مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت. أعاد القرار التأكيد «أن سياسة إسرائيل وممارساتها في إقامة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى المحتلة منذ العام 1967 ليس لها شرعية قانونية وتشكل عقبة خطيرة أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط وندعو مرة أخرى إسرائيل، بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، إلى التقيد الدقيق باتفاقية جنيف الرابعة (1949)، وإلغاء تدابيرها السابقة والامتناع عن اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يؤدي إلى تغيير الوضع القانوني والطابع الجغرافي أو يؤثر مادياً على التكوين الديموغرافي للأراضي العربية المحتلة منذ 1967، بما فيها القدس، ولا سيما عدم نقل أقسام من سكانها المدنيين إلى الأراضي العربية المحتلة».
إعادة التأكيد، أمرٌ له بعض الأهمية.
الاقتباس أعلاه هو من قرار مجلس الأمن رقم 446، 12 آذار 1979، وكانت خلاصة التصويت عليه وقوف 12 صوتاً معه وعدم وقوف أي صوت ضده، مع امتناع 3 عن التصويت، هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج. والفارق الأساسي اليوم هو أنّ الولايات المتحدة باتت تقف وحدها ضد العالم كلّه، علامة أخرى على تزايد عزلة الولايات المتحدة على الساحة العالمية. أقصد في عهد أوباما. وهي عزلة من المرجح أن تزداد في ظل ترامب، وقد ازدادت بالفعل، حتى قبل توليه مهامّ منصبه.
جاءت خطوة ترامب الأهم في زيادة عزلة الولايات المتحدة في 8 تشرين الثاني، مع إحرازه اثنين من الانتصارات. كان النصر الأقل شأناً في الولايات المتحدة، مع فوزه في الانتخابات الرئاسية. وكان النصر الأكبر في مراكش، المغرب، حيث التقت نحو 200 من الدول في محاولة لإضفاء شيء من المضمون الفعلي على اتفاقيات باريس في كانون الأول 2015 المتعلقة بالتغير المناخي، تلك الاتفاقات التي تُرِكَت وعوداً بخلاف ما قُصِدَ من المعاهدة لأنَّ الكونغرس «الجمهوري» ما كان ليقبل أن يقرّ التزاماتٍ ملزمةً.
مع النتائج الانتخابية في 8 تشرين الثاني، انزاح مؤتمر مراكش عن برنامجه الجوهري باتجاه السؤال عن وجود أي إجراء مُجْدٍ في التعامل مع التهديد الشديد بكارثة بيئية ما دامت أقوى دولة في تاريخ العالم قد استقالت من الأمر. كان هذا، بلا شكّ، انتصار ترامب الأعظم في 8 تشرين الثاني، الانتصار ذا الأهمية العظيمة حقاً. وقد رسّخ أيضاً عزلة الولايات المتحدة بصدد أكبر مشكلة سبق للبشرية أن واجهتها خلال تاريخها القصير على وجه البسيطة. وراح العالم يعلّق آماله على الصين بصدد القيادة، ما دامت زعامة العالم الحر قد أعلنت أنها لن تنسحب من هذا الجهد فحسب، بل سوف تندفع بقوة، مع انتخاب ترامب، على طريق الكارثة.
مشهدٌ مدهشٌ، مرّ عملياً من دون أيّ تعليق.
حقيقةُ أنَّ الولايات المتحدة هي الآن وحدها في رفض الإجماع الدولي المتمثّل في قرار مجلس الأمن 2334، بعد أن فقدت حتى بريطانيا تيريزا ماي، هي علامة أخرى على زيادة عزلة الولايات المتحدة.
يبقى سؤالاً مفتوحاً لماذا اختار أوباما الامتناع عن التصويت بدلاً من استخدام حق النقض: ما من أدلة مباشرة لدينا. لكن هناك بعض التخمينات المنطقية. لقد أثار موجاتٍ من الدهشة (والسخرية) استخدامُ أوباما حق النقض في شباط 2011 حيال قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعو إلى تنفيذ السياسة الأميركية الرسمية، ولعلّه شعر بأنه سيكون من الإفراط تكرار ذلك إذا ما أراد إنقاذ أيّ شيء من إرثه المتعثّر بين تلك القطاعات من السكّان التي يهمها القانون الدولي وحقوق الإنسان. ومن الجدير بالذكر أيضاً أنَّ الرأي في شأن إسرائيل ـ فلسطين قد تحرك في السنوات الأخيرة صوب انتقاد السياسات الإسرائيلية بين «الديموقراطيين» الليبراليين، إن لم يكن في الكونغرس، ولا سيما بين الشباب، إلى درجة أن مركز دعم السياسات الإسرائيلية في الولايات المتحدة قد تحول باتجاه أقصى اليمين، بما في ذلك القاعدة الإنجيلية لـ «الحزب الجمهوري». ربما كانت هذه من العوامل الفاعلة.
أثار امتناع الولايات المتحدة عن التصويت هذا العام ضجة في إسرائيل وفي الكونغرس الأميركي أيضاً، لدى «جمهوريين» و «ديموقراطيين» بارزين، إلى درجة تقديم مقترحات بالامتناع عن تمويل الأمم المتحدة رداً على هذه الجريمة العالمية. وندد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأوباما وتصرفاته «المخادعة المعادية لإسرائيل». واتهم مكتبه أوباما بـ «التواطؤ» وراء الكواليس مع «العصابة» في مجلس الأمن الدولي التي قدّمت أجزاء «أدلة» لا تكاد ترقى الى مستوى الفكاهة المريضة. وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الامتناع عن التصويت «كشف الوجه الحقيقي لإدارة أوباما»، وأضاف: «بات بمقدورنا أن نفهم الآن مع من كنا نتعامل على مدى السنوات الثماني الماضية».
لكن الواقع مختلف عن هذا أشدّ الاختلاف. وأوباما كان في الواقع قد حطم جميع الأرقام القياسية في تقديم الدعم لإسرائيل، دبلوماسياً ومالياً على حدٍّ سواء. وكان ديفيد غاردنر، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة «فاينانشال تايمز»، قد وصف هذا الواقع بدقة: «علاقات السيد أوباما الشخصية مع السيد نتنياهو كثيراً ما كانت علاقات مسمومة، لكنه الأكثر تأييداً لإسرائيل بين الرؤساء: الأشدّ إسرافاً في الدعم العسكري والأشد ثقة من حيث استخدام الفيتو الأميركي في مجلس الأمن ... ولم يأتِ انتخاب دونالد ترامب إلى الآن بما يزيد على تغريدات مثيرة للجدل في ما يتعلّق بهذه أو تلك من العقد الجيوسياسية. لكن النذر هي نذر شؤم. ثمة حكومة وحدوية إسرائيلية الوحدوية تميل نحو اليمين المتطرف، وتلتحق بها إدارة أميركية شعبوية قومية تتبنى نهج الإسلاموفوبيا».
ندد نتنياهو، في تعليق لافت وكاشف، بـ «العصابة» العالمية بوصفها برهاناً على «انحياز العالم القديم ضد إسرائيل»، وهذه عبارة تذكّرنا بتمييز دونالد رامسفيلد في العام 2003 بين «أوروبا القديمة» و «أوروبا الجديدة». وفي هذا إشارة إلى أنَّ دول «أوروبا القديمة»، الدول الكبرى في أوروبا، هم الأشرار الذين تجرأوا على احترام آراء أغلبية شعوبهم الساحقة، ورفضوا الانضمام إلى الولايات المتحدة في جريمة العصر، غزو العراق. أمّا دول «أوروبا الجديدة» فهم الأخيار الذين تجاهلوا أغلبية كبرى وأطاعوا السيد. وكان الأبرز بين الأخيار الإسباني خوسيه ماريا أثنار الذي رفض الإجماع على معارضة الحرب في إسبانيا وكوفئ بالدعوة للانضمام إلى بوش وبلير في الإعلان عن الغزو.
لقد مرّ هذا الازدراء التام للديموقراطية من دون أن يلاحظه أحد تقريباً، ولأسباب مفهومة. كانت المهمة في ذلك الوقت هي الثناء على واشنطن لتفانيها الشديد حيال الديموقراطية، الأمر الذي بيّنه «تعزيز الديموقراطية» في العراق، ذلك التعزيز الذي أصبح فجأة برنامجاً جماعياً ما إن أُجيب بالنفي عن «السؤال الوحيد»: هل يسلّم صدام أسلحة الدمار الشامل لديه؟
يتبنى نتنياهو هذا الموقف ذاته إلى حدّ بعيد. العالم القديم المنحاز ضد إسرائيل هو مجلس الأمن الدولي بأكمله؛ وبشكل أكثر تحديداً، أيّ شخص في العالم يبدي بقية التزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان. ومن حسن حظ اليمين المتطرف الإسرائيلي أنَّ هذا يستثني الكونغرس الأميركي والرئيس المنتخب ومساعديه، من دون مواربة.
تعي الحكومة الإسرائيلية، بالطبع، هذه التطورات. وهي لذلك تسعى لإزاحة قاعدة دعمها باتجاه الدول السلطوية مثل سنغافورة والصين وهند ناريندرا مودي اليمينية القومية الهندوسية التي أصبحت الآن حليفاً طبيعياً جداً مع انجرافها نحو التعصب القومي والسياسات الداخلية الرجعية، وكراهية الإسلام. وكان مارك هيلر، الباحث في «معهد تل أبيب لدراسات الأمن القومي»، قد عدد الأسباب وراء تطلع إسرائيل في هذا الاتجاه بحثاً عن الدعم. يقول هيلر: «على المدى الطويل، ثمة مشاكل تواجه إسرائيل في علاقاتها مع أوروبا الغربية ومع الولايات المتحدة»، وفي المقابل، فإن البلدان الآسيوية المهمة «لا يبدو أنها تبدي كبير اهتمام بتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين أو العرب، أو أي أحد آخر». وباختصار، فإنَّ الصين والهند وسنغافورة وغيرها من الحلفاء المفضلين أقلّ تأثراً بتلك الضروب من الاهتمامات الليبرالية والإنسانية التي تشكل تهديداً متزايداً لإسرائيل.
تستحق النزعات التي تتنامى في النظام العالمي بعض الاهتمام. وكما لاحظنا، فإنَّ الولايات المتحدة تغدو أكثر عزلة مما كانت عليه في السنوات الأخيرة، عندما كانت استطلاعات الرأي التي تديرها الولايات المتحدة ـ وتعرف واشنطن نتائجها بلا شك من دون أن تُنشَر تقارير عنها ـ تكشف أن الرأي العام العالمي يعتبر الولايات المتحدة التهديد الرئيس للسلم العالمي، من دون منازع. وفي ظل إدارة أوباما، فإن الولايات المتحدة تقف الآن وحدها في الامتناع عن التصويت على المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، ضد إجماع مجلس الأمن الدولي. ومع ترامب ومؤيديه في الكونغرس من الحزبين، ستكون الولايات المتحدة أكثر عزلة في دعمها الجرائم الإسرائيلية. منذ 8 تشرين الثاني، باتت الولايات المتحدة معزولة في شأن مسألة أكثر أهمية بكثير هي الاحتباس الحراري. وإذا ما كان ترامب سيفي بوعده الخروج من الصفقة مع إيران، فمن المرجح أن يواصل المشاركون الآخرون، تاركين الولايات المتحدة أكثر عزلة عن أوروبا. بل إن عزلة الولايات المتحدة عن «فنائها الخلفي» الأميركي اللاتيني هي أشد بكثير مما كانت عليه في الماضي، وسوف تزداد إذا ما تراجع ترامب عن الخطوات التي اتخذها أوباما في تطبيع العلاقات مع كوبا درءاً لاحتمال إقصاء الولايات المتحدة عن كثير من المنظمات في ذلك النصف من الكرة الأرضية بسبب عدوانها المستمر على كوبا.
يحدث الشيء ذاته في آسيا، حيث يتدافع حتى أوثق حلفاء الولايات المتحدة (باستثناء اليابان)، بما في ذلك المملكة المتحدة، على «بنك تنمية البنية التحتية الآسيوية» الموجود في الصين وعلى «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» الموجودة في الصين أيضاً، بما في ذلك اليابان في هذه الحالة. وتضم «منظمة شنغهاي للتعاون» الموجودة في الصين دول آسيا الوسطى وسيبيريا بمواردها الغنية، والهند، وباكستان، وقريباً ربما إيران وتركيا. وقد رفضت هذه المنظمة طلب الولايات المتحدة الحصول على صفة مراقب وطالبتها بإزالة جميع قواعدها العسكرية من المنطقة.
لقد شهدنا، بعد انتخاب ترامب مباشرة، ذلك المشهد اللافت الذي أخذت فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زمام المبادرة وراحت تلقي المحاضرات على واشنطن في ما يتعلّق بالقيم الليبرالية وحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، راح العالم، منذ 8 تشرين الثاني، يتطلع إلى الصين لأداء دور قيادي في إنقاذ العالم من كارثة بيئية، فيما تكرس الولايات المتحدة نفسها لتقويض هذه الجهود، في عزلةٍ عجيبة من جديد.
ليست عزلة الولايات المتحدة كاملةً، بالطبع. وكما اتضح جليّاً في رد الفعل على فوز ترامب، فإنَّ الولايات المتحدة تبدي عن دعمٍ حماسي لليمين المتطرف الكاره للأجانب في أوروبا، بما في ذلك عناصره من الفاشيين الجدد. وتوفّر عودة اليمين المتطرف في أجزاء من أميركا اللاتينية فرصاً للولايات المتحدة لإقامة التحالفات هناك أيضاً. وبالطبع، فإنّ الولايات المتحدة تحافظ على تحالفها الوثيق مع ديكتاتوريات الخليج ومع إسرائيل التي تعزل نفسها أيضاً عن القطاعات الأكثر ليبرالية وديموقراطية في أوروبا لترتبط مع أنظمة استبدادية لا تهتم لانتهاك إسرائيل للقانون الدولي واعتدائها الشديد على حقوق الإنسان الأوليّة.
تشير الصورة المتنامية إلى بروز «نظام عالمي جديد»، نظام يختلف كثيراً عن الصور المعتادة ضمن المنظومة العقائدية.