سورية..شروط التسوية وحواضنها.. بقلم: ورد كاسوحة

سورية..شروط التسوية وحواضنها.. بقلم: ورد كاسوحة

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٠ يناير ٢٠١٧

التسوية بطبيعتها فعل مركّب، وهذا الفعل يحتاج إلى تنازلات من الأطراف كافّة والى فضّ اشتباك ميداني بينها حتى يجد السياق الملائم لتطبيقه. وفي الحالة السورية تحديداً تزداد التعقيدات المرافِقة للتسوية بسبب كثرة الأطراف المتصارعة وندرة حصول تقاطعات فعلية بينها.

وهذا ما يفسّر صعوبة المضيّ في اتفاقيات وقف إطلاق النار العديدة التي أُجريت بين الروس والأميركيين، لكن الاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا يبدو من طبيعة مختلفة. فهو يحصل بين طرفين منخرطين مباشرةً في القتال ولكلٍّ منهما تحالفاته القائمة على الأرض. هذا يوفّر قاعدة مستقرّة للتفاهمات ويسمح بالانتقال فوراً من الحيّز الميداني إلى السياسي فور الانتهاء من الأعمال القتالية. وكونه رُبِط منذ البداية بمسار سياسي اتُفق بين الطرفين الراعيين - أو الضامنين - بمشاركة إيرانية واضحة على مباشرته في الأستانة عاصمة كازاخستان فهذا يعني أن جديته فعلية هذه المرة، سواءً لجهة إنهاء الحرب أو ربطها بالتسوية الممكنة بعد إخراج داعش والنصرة من المعادلة السياسية.

توسيع قاعدة المشاركة

"توريط" روسيا لتركيا في الاتفاق على قاعدة التقارب الناشئ بينهما أدّى إلى إغلاق الكثير من الجبهات، وحصر ما تبقى منها بالقتال ضدّ داعش والنصرة. حصل ذلك بالتزامن مع زيادة وتيرة المعارك في الباب بين داعش وقوات درع الفرات المدعومة من الجيش التركي، في مقابل انحسار واضح للزخم على جبهة الرقة بعد المراوحة التي أصابت قوات سوريا الديمقراطية إثر خروج الأميركيين المؤقّت من المعادلة. الوجود المباشر للأتراك ميدانياً على جبهة الشمال تُرجم سياسياً إلى حضور وازن للفصائل المدعومة منهم في الاتفاق، وهو ما سمح بتوسيع قاعدة المشاركين من الفصائل على حساب الأطر السياسية المعارضة التابعة للسعودية. تعطّلت بفعل ذلك الكوابح السعودية التي كانت تلعب دوراً أساسياً في عرقلة "الاتفاقات" السابقة في جنيف ولوزان، واضطرت المجموعات العسكرية التي تتبع للمملكة إلى الالتزام بوقف إطلاق النار على قاعدة ارتباطها الميداني بواقع الفصائل الذي تغيّر بفعل الاتفاق، مغيراً معه كلّ شيء بما في ذلك تبعيتها لهذه الدولة أو تلك. وفي المناطق القليلة الباقية التي استمرّ فيها القتال لأسباب تتعلّق برغبة الجيش وحلفائه في حسمها (وادي بردى تحديداً) حصل تدخّل مباشر من جانب الروس بعد التواصل مع الفصائل المقاتلة هناك "لتحييد المنطقة" وضمّها إلى اتفاق وقف إطلاق النار. بالنسبة إلى الروس والأتراك التسوية هي الثابت الوحيد وأيّ خروج عنها بعد الاتفاق على الإنهاء المتزامن للقتال سيتطلّب بالضرورة تدخلاً من الطرفين للجم الجهات التي ترغب بالتصعيد وإفهامها أنّ زمن القتال خارج التفاهمات التي استثنت داعش والنصرة من التسوية قد انتهى. وإذا استمرّ هذا النهج ولم يتدخّل طرف إقليمي أو دولي لعرقلته فإنّ الأعمال القتالية ستتوقّف نهائياً باستثناء المناطق التي يستمرّ القتال فيها ضدّ داعش والنصرة، وهذا يعني إرساء قاعدة ثابتة لضمّ كلّ المناطق الخارجة عن سلطة النظام إلى التسوية. سيساعد ذلك في توسيع قاعدة المشاركين في التفاوض من داخل الفصائل المسلّحة وخارجها، وسيعطي زخماً أكبر لاستراتيجية المصالحات التي بدأها النظام منذ فترة، قبل أن يوسّعها الروس بعد إنشاء مركز حميميم لتنسيق المصالحات، ويعتمدوها كحجر أساس في الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع الفصائل التي تتبع للأتراك.

تراجع الاستقطاب وبناء الإجماع

هذا الانخراط الواسع لقوى المعارضة المسلّحة في التسوية سيحظى بقبول شعبي كبير، وسيجبر الأطراف كافّة على تثبيت مواقفها وعدم التراجع عنها تحت أيّ ضغط مقبل من الخارج. الإقليم نفسه سيكون مجبراً على إعادة حساباته في ضوء التغيّرات الحاصلة هنا، وستنعكس التسوية في حال استكمالها دولياً على صراعاته، بحيث تتعمّم التجربة السورية ويصبح إنهاؤها هو المدخل لإيقاف هذه الصراعات وليس العكس. على مستوى الداخل سيساعد وقف إطلاق النار الكامل والمتزامن بالإضافة إلى معاودة التفاوض في الأستانة في تخفيف حدّة الاحتقان الذي سببته الأزمة، بحيث يتراجع الاستقطاب الذي تكرّس في السنوات الماضية لمصلحة إجماع هشّ ومشروط. هنا يأتي دور القوى العاقلة والفاعلة داخل النظام والمعارضة لتذليل العقبات التي تقف في وجه معاودة بناء الإجماع الوطني على أسس واضحة ومستقرّة. لن يحصل ذلك بسهولة وسيتطلّب انخراطاً كاملاً من جميع الأطراف التي لها مصلحة في الحفاظ على الدولة السورية انطلاقاً من محدّدات تبدأ بإصلاح نظامها السياسي جذرياً ولا تنتهي عند توسيع مروحة المشاركين في صياغته من مختلف طبقات وفئات المجتمع. ومعظم هؤلاء في الحقيقة من الشرائح التي شاركت في الاحتجاجات الأولى أو عارضتها، وفي الحالتين دفعت الثمن وحدها واستُبعدت من كلّ الأطر التي أنشأتها الأطراف المختلفة لإدارة الصراع. لكن في التسوية المقبلة سيكون لها ولمن تبقّى من السوريين دور أساسي إن لم يكن في معاودة صياغة النظام ففي إضفاء الشرعية عليه، وعدم السماح لقوى الحرب بالحصول على "تمثيل سياسي" مفارق لحجمها الفعلي. وهو للدقّة متضخّم ومرتبط بالمكاسب التي جنتها من أعمال الحرب والارتزاق، ولا يمكن مقارنته بالحضور الذي يحظى به أنصار التسوية والإجماع والمشاركة والإصلاح السياسي الجذري، وهم للدقّة أيضاً أكثرية السوريين في الداخل والخارج.
*كاتب سوري