أوباما «الناعم» نجاح بدرجة وسط.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

أوباما «الناعم» نجاح بدرجة وسط.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ١٢ يناير ٢٠١٧

أبى باراك أوباما أن يغادر البيت الأبيض قبل أن يترك بصمات عديدة في شتى الاتجاهات كان ما يميزها هو رتمها السريع حتى ليبدو أن تاركها لم يكن يملك الوقت الكافي لفعل ذلك في السابق، ونكهتها التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها مختلفة عن تلك التي كانت تتميز بها شقيقاتها على امتداد السنوات الثماني المنصرمة (2009-2017) من الناحية العملية كانت أغلبية تلك البصمات تدفع باتجاه إطلاق حرب باردة جديدة بعدما كان الكثير من مؤشراتها متناثراً هنا وهناك على مدى سنوات عديدة ماضية، ففي مطلع كانون الأول 2016 بدأ باراك أوباما بمغازلة تايوان علانية ومن ثمَّ قام بالتلويح إلى إمكان إنشاء علاقات معها بعيداً عن مركزية بكين الأمر الذي يشكل خروجاً صارخاً عن التعهد الأميركي الذي وضعه هنري كيسنجر في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وهو ما يشكل أرضية صلبة لتفاهم أميركي صيني لربما كان معلماً مهماً في ما آلت إليه الأمور في الاتحاد السوفييتي 1991.
كان ذلك التعهد يتلخص بشعار «صين واحدة» الذي تعتبره بكين غاية في الأهمية لاستقرارها وتطورها، لذا فإن ما أقدم عليه أوباما مؤخراً في هذا السياق يشكل استفزازاً غير مسبوق لهذه الأخيرة وما يزيد من عوامل القلق الصينية هو أنه جاء بالتزامن مع مؤشرات عديدة إلى وجود توجه أميركي جديد يقضي بنقل مركز الاهتمام الأميركي من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمواجهة التنين الصيني الصاعد والذي من المقدر له أن يدخل العقد الثالث من هذا القرن وهو يحتل الرقم واحد في تصنيفات الاقتصاد العالمية.
وفي أواخر شهر كانون الأول 2016 وقع باراك أوباما على مشروع قرار يسمح بتزويد الفصائل المسلحة السورية بأسلحة نوعية وحديثة (24/12/2016) وهو ما يشكل بالتأكيد عامل استفزاز كبيراً للروس كما يعتبر خروجاً عن التوافقات الأميركية- الروسية الخاصة بالأزمة السورية التي تم التأكيد على ثوابتها في محطات عديدة، والسؤال البديهي هو لماذا هذا الخروج؟ ثم لماذا الآن؟! ولم يكتف الرئيس الأميركي باستفزازه السابق للروس، فقد ذهب في 30/12/2016 إلى طرد 35 دبلوماسياً روسياً من واشنطن بذريعة تدخل بلادهم في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت مؤخراً (8/11/2016) والتي هزمت فيها المرشحة الديمقراطية على الرغم من أن إعلاناً كهذا يمكن أن يصيب الهيبة الأميركية برمتها في مقتل بل يظهر الكيان الأميركي بمظهر الضعيف والهش الذي يسهل اختراقه.
أيضاً عمد أوباما إلى توجيه «طعنة» لحليفه الذي يكن كرهاً شديداً له بنيامين نتنياهو حينما لم ترتفع الأصابع الأميركية مشهرة لحق النقض والسماح بمرور القرار «2334 تاريخ 23-12-2016» الذي يعتبر قراراً تاريخياً بالنسبة للقضية الفلسطينية وضربة ساحقة للعنجهية الإسرائيلية التي ما انفكت تعمل عبر نشر مستوطناتها في مفاصل مدروسة على جعل حل الدولتين أمراً مستحيلاً.
لربما بدا أوباما خلال الشهرين الماضيين وكأنه منقطع عن سياساته التي اعتمدها خلال الأعوام الثمانية الماضية والتي قامت أصلاً على محاولة احتواء واشنطن للنفور العالمي من «حربجية» جورج بوش الابن «2001-2009».
بنظرة شرق أوسطية «المقصود بها النظرة الناتجة عن مجتمع ذي تكوين فسيفسائي متنوع دينياً ومذهبياً وعرقياً» يمكن القول إن النهج الذي اعتمده بوش الابن على الرغم من حروبه المدمرة التي لا نزال نعيش تداعياتها إلى الآن إلا أن ذاك النهج كان أقل ضرراً من نظيره الذي اعتمده باراك أوباما الذي عمل على التسلسل كما النعاس والدخول إلى عمق المكونات المجتمعية لدول المنطقة وصولاً إلى إثارة النعرات الطائفية والعرقية بل العشائرية التي أفضت في النهاية إلى تمترس أبناء الوطن الواحد وراء متاريس في مواجهة أشقائهم في الخندق المقابل بعدما نجحت سياسات أوباما الناعمة في تدمير المفاصل الرئيسية التي كان يقوم عليها تآلف النسيج المجتمعي.
سيذكر التاريخ باراك أوباما كغاز ناعم للمنطقة لم يأت بجيوشه إليها إلا أنه استطاع بعد فك الشيفرات الوراثية لمجتمعاتنا أن يخترق الجينات المكونة لها والمحدودة لصفاتها وهو بذلك يعود إلى المدرسة البريطانية التي كانت تتميز بالبرود والنفس الطويل الأمر الذي مكنها من تحقيق نجاحات بعيدة المدى حتى إنها لم تكن تغادر بلداً ما إلا بعد أن تترك فيه عللاً وأمراضاً من النوع غير القابل للشفاء، وهو ما رصده المثل الشعبي العربي الذي يقول: «كل داء سببه البرد أو الإنكليز».
كان أوباما بعيداً عن سياسات الكاوبوي نسبياً، إلا أن اقترابه منها خلال الشهرين الأخيرين من حكمه يعتبر مؤشراً إلى أن نجاحه في سياساته الناعمة كان بدرجة وسط أو أنه لم يرق لأن يكون أرضية يمكن البناء عليها.