سورية أولًا أم فلسطين أولًا.. بقلم: إيهاب زكي

سورية أولًا أم فلسطين أولًا.. بقلم: إيهاب زكي

تحليل وآراء

الأحد، ٢٢ يناير ٢٠١٧

بيروت برس -

يتجاهل البعض في غمرة حماسه الصادق، أن أوسلو كانت التجلي الأبرز لمنطق فلسطين أولًا، فليس كل صادقٍ صائب، فالصدق يتطلب الفطنة بأكثر ما يتطلب الكذب المراوغة، وكما كان شعار مصر أولًا والأردن أولًا مدخلًا إجباريًا لاتفاقيات كامب ديفيد وودادي عربة، كان شعار لبنان أولًا تمهيدًا ضروريًا لنزع الشرعية عن سلاح حزب الله ومن ثم اتفاقية استسلام على غرار ما سبق من اتفاقيات عربية مع الكيان الصهيوني، لذلك فإنه من الفطنة أن يتبنى العربي عمومًا من المحيط إلى الخليج فلسطين أولًا، ولكنه من المراوغة الشديدة أن يتبنى الفلسطيني الشعار ذاته، فالعربي حين يتبنى ذلك الشعار، فهو يجعل من بوصلته الصحيحة حافزًا تنمويًا على كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية وحتى الفنية، كما أنها ستشكل سدًا منيعًا أمام كل محاولات الاختراق التي تسعى إليها "دولة" الكيان للمجتمعات العربية، وهي اختراقات لا تنخر في قدرة المجتمعات العربية على النهوض فحسب، بل تنخر في العقل لشل قدرته على مجرد التفكير بالنهوض.

أما الفلسطيني الذي يتبنى ذلك الشعار، فهو كساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح، فمنذ تبني هذا الشعار ونحن نستمع إلى عبارة دبلوماسية واحدة، ترددها الدبلوماسيات العربية كوجه آخر للتفريط، وهي "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، والفلسطينيون هنا في عقل الدبلوماسية العربية هم فلسطينيو "فلسطين أولًا" حصرًا، أما غيرهم فلا يقبلون إلا بفلسطين التاريخية كاملةً كجزءٍ لا يتجزأ من الوطن العربي، فهل تقبل الدبلوماسيات العربية بما يقبل به هؤلاء؟؟ الإجابة قطعًا لا، فليس هذا ما تقصده الدبلوماسية العربية، إنها تقصد المزيد من الضغط لتقديم المزيد من التنازلات والوصول لأقصى حدٍ من التفريط. بل أكثر من ذلك، فإن هذا الشعار قد حوّل العرب من شركاء في الدم والمصير إلى مجرد وسطاء، وهم الآن في الطريق ليصبحوا حلفاء لـ"إسرائيل"، في تطورٍ طبيعي لذلك الشعار الكئيب وانحراف البوصلة، فالفلسطيني الذي يتقوقع في ضيق ذلك الشعار، يفرض على نفسه التصغير والتحجيم واللاوزن، وتتقلص قضيته وكرامته لتصبح بحجم كيس دقيق أو ساعة من كهرباء.

وهنا يثور سؤال بحجم المستقبل، أيهما الأهم بالتناول والاهتمام، سوريا أم فلسطين، وهذا السؤال مركب حد التعقيد، فسوريا العراق اليمن أم فلسطين، وإذا كانت الإجابة سوريا فهل هذا يعني أن التناول يجب أن يكون على قاعدة سوريا أولًا، أم على قاعدة السوري الذي يتبنى شعار فلسطين أولًا، والفلسطيني الذي يتبنى شعار سوريًا أولًا، وكذلك العراقي واليمني، لأن السوري الذي يتبنى شعار سوريا أولًا سينتهي به المطاف للصلاة على "حائط المبكى" مرتديًا "الكيباه"، حتى لو لم يكن ينتوي ذلك. والحقيقة وللإجابة عن هذا التساؤل، فنحن في هذا العام ندشن مئوية ضياع فلسطين، ورغم هذا القرن من الضياع بقي في الأمة باقية، ومن ضمن هذه البقية الباقية سوريا الممانِعة، وهي تدفع ثمن البقاء والضياع معًا، وظلت فلسطين رغم مئويتها النازفة أيقونة عربية، لا ينفك الأمل باسترجاعها عن تحريض العقول والقلوب على العمل ولو بأضعف الإيمان، وكانت وستظل هي محور الصراع وهي المقياس الحقيقي لنبض الأمة ودليل استفاقتها أو غيبوبتها، وفيما قبل نهاية المئوية المزرية، لاح في الأفق بصيصٌ من وهنٍ اصاب "دولة" العدو، عطبٌ أصاب روحها وقلبها وعقلها، وهو عطبٌ مزمن لا علاج له سوى الراحة المطلقة، وهي الراحة التي تتطلب القضاء التام على بقية الأمة الباقية، فتلك "الدولة" الواهنة لم تعد قادرة على الانتصار.

وعليه، فإنّ نجاح العدوان على سوريا في تحقيق أهدافه التقسيمية على أسسٍ مذهبية وطائفية وعرقية، لن يكون مقارنة بكارثة ضياع فلسطين- التي لم يؤد ضياعها إلى ضياع أمةٍ وإن تاهت- إلا كسقوط صخرةٍ من جبل مقارنة بانهيار الجبل، فهو سيؤدي إلى ضياع الأمة لمئوياتٍ متكررة، حيث تصبح "دولة" الكيان هي الأكبر والأكثر تماسكًا واستقرارًا وبالتالي سطوةً وهيمنة، وما زلنا حتى اللحظة بكل ما أوتيت من شرذمة، نتشجع في إطلاق صفة أمة، ولكن فيما لو سقطت سوريا، لن يجرؤ حتى عنترنا عن التلفظ بذلك اللفظ أو يرادفه ولو من بعيد. فالفلسطيني الذي يقول اليوم سوريا أولًا هو في قرارة نفسه يقول اللهم أمتي، اللهم قدسي، كذلك اللبناني والعراقي واليمني، يقولون اللهم أمتنا، اللهم أوطاننا، بينما السوري لا يجب أن يقول سوريا أولًا، كما يجب تجريم الفلسطيني الذي يتبنى فلسطين أولًا، خصوصًا وأننا نتعرض لهجمة شرسة على مستوى الوعي، وقد أزال العدو عبر مفكرين ينطقون بالضاد كل حدودٍ للدولة الوطنية، فقد أصبح الصراع يُقدم باعتباره مذهبيًا وطائفيًا وعرقيًا بغض النظر عن جواز السفر.

فحين يطرح البعض شعار الحرب العربية الفارسية أو السنية الشيعية، فهو لا يجردنا فقط من جواز سفرنا، هو يجردنا من مستقبلنا وإنسانيتنا وقبلهما عقولنا، والاصطفاف ضد الدولة السورية هو ترجمة عملية لهذه الشعارات مهما تكحل من يقول ذلك بوطنياتٍ فارغة، وعلى سبيل الخلاصة، فإن انتصار سوريا وهو حتمي، هو انتصار لأمة بكل قضاياها وآمالها لا لشعب أو لدولة قطرية، وهزيمتها وهي مستحيلة، هي هزيمة لأمةٍ ولأجيالها المتعاقبة، وإن زوال "إسرائيل" أو بقاءها اليوم ترسمه ميادين سوريا لا شوارع القدس أو غزة، فالفلسطيني الذي ينغرس في سفسطات الانقسام والمصالحة وذهاب أوباما ومجيء ترامب والمقاطعة الأوروبية للبضائع "الإسرائيلية" بحثًا عن فلسطين، هو كالسوري الذي يعتقد أن التخلي عن عروبته هو الحل الأمثل لإنهاء العدوان، وكلاهما ينشد نكث الغزل بعد قوة، لذلك فإنّ فطنة الصدق تتطلب أن يتبنى العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا اليوم شعار سوريًا أولًا، ويتبنى السوري والعربي عمومًا خصوصًا شعار فلسطين أولًا.