نمشي.. وتنأين يا جنيف!.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

نمشي.. وتنأين يا جنيف!.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٧ فبراير ٢٠١٧

من الممكن تكثيف النتيجة الأهم التي استولدتها مؤتمرات الأستانة الثلاثة بالقول إن كلاً من طرفي الصراع: النظام والمعارضة قد دخل إلى مفاوضات جنيف4 (23/2) بوضع مغاير تماماً للوضع الذي كان عليه في السابق، فالنظام استطاع استعادة مواقعه الدولية بشكل شبه تام، أما المعارضة فقد حصلت هي الأخرى على اعتراف النظام بها بشقيها السياسي والعسكري وهو ما تأكد عبر عدم استخدام دمشق لأي فيتو على أي من الأسماء التي كانت مشاركة في مفاوضات الأستانة وتالياً في جنيف على الرغم من أن في الأمر ما يدعو إليه.
هذه المتغيرات تبدو وكأنها كانت منتظرة قبيل الذهاب نحو إطلاق شارة البدء فالمكسب الذي حققته المعارضة يأتي ليشكل موازناً لخسارتها للعديد من مواقعها الدولية والإقليمية بفعل عوامل عديدة بعضها يتعلق بالنهج أو بالمصالح وهذي نتيجة طبيعية لتضارب مصالح «المشغل» الإقليمي أو الدولي مع مشغل آخر أو أكثر، ناهيك عن تشرذمها حتى إذا ما تراكمت الهزائم السياسية وكذا العسكرية بدأت الأمراض المزمنة فيها تأخذ حالة وبائية إذ لطالما تأكد أنها من الصعب تطبيب أغلبية تلك الأمراض بدءاً من داء المحافظة السياسية الذي تختصره مقولة (إما كل شيء أو لا شيء) مروراً بداء البلاهة السياسية الذي يظن المصاب به أنه هو من دون أحدٍ غيره محور هذا الكون وأن قوى هذا الأخير تقف في الطابور أمامه بانتظار أن يدلي بتصريحاته أو يعلن مواقفه لكي تحدد هي مواقفها أيضاً، وصولاً إلى داء العمى السياسي الذي يصيب شبكية العين ويحيل أوقات المصاب كلها ليلاً فتصبح معه (كل البقرات سوداء» بدت آثار الأحداث الأخيرة السابقة جلية على طرفي الصراع وقبيل الدخول إلى جنيف4 فظهر النظام وهو أكثر ثقة بالنفس وأكثر إيماناً بالانتصار وهو ما يمكن تلمسه في تصريحات نائب وزير الخارجية السوري د. فيصل المقداد لوكالة «مهر» الإيرانية 20/2/2017 عندما قال: «إن الحكومة السورية تمتلك اليد العليا في العملية السياسية» إضافة إلى وجود العديد من التفاصيل الدقيقة التي يضيف كل منها كماً إلى الثقة بالنفس أو الإيمان بالانتصار أو أنها تشي بما يجول في دواخل صانع القرار.
وفي المقلب الآخر بدت المعارضة مهتزة الأعصاب كنتيجة طبيعية لشعور داخلي ناجم عن فقدان الظهير (أو حتى الخل الوفي) الذي يمكن الاستناد إليه ولربما ظهر ذلك بوضوح في تصريح وفد المعارضة إلى أستانا 20/2/2017 الذي جاء فيه: «إن روسيا فشلت في التزاماتها» وهو تصريح بغض النظر إذا ما كان صحيحاً أم لا فإنه يحمل بين طياته تصوراً بأن المعارضة كانت تأمل في تعديل ميزان القوى المختل أصلاً مع النظام عبر تقاربات يمكن أن تقيمها مع حلفائه، والراجح كما يبدو أنها «المعارضة» كانت تبني آمالاً كبيرة على ذلك التصور ولعلها تبني أيضاً آمالاً على ما ذهبت إليه أنقرة مؤخراً فقد كان ملاحظاً ولم يكن مصادفة أن تعلن أنقرة عن سيطرة القوات الحليفة لها على مدينة الباب بشكل كامل 23/2 أي قبيل الدخول إلى مفاوضات جنيف بساعات فقط، فالأمر واضح هنا وهو لا يعدو أن يكون أكثر من رفع حالة معنوية لطرف ارتأت أنه في وضع معنوي سيئ من دون أن يعني ذلك أن أنقرة قد استعادت رهانها القديم على المعارضة السورية إلا أن ذلك لا يمنع من تسمين هذي الأخيرة والمحافظة على قوتها كورقة تفاوضية مهمة مع الروس والإيرانيين على حد سواء.
لم يرشح الكثير عن الورقة التي تقدم بها ستيفان دي ميستورا في اليوم الثاني للمفاوضات 24/2/2017 إلا أنه من المؤكد أنها تضمنت رؤية لتأسيس أرضية تحوي جسراً للعبور الذي اختير أن يكون القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن كانون الأول 2016 ومن المهم هنا أن نشير إلى أن المناخات التي صدر فيها ذلك القرار كانت تسجل لحظة تقارب روسية أميركية كبرى ولم تكن لدى واشنطن أي ملاحظات على الدور الروسي في سورية، ولذلك فإن اعتماد القرار سابق الذكر هو أمر يعتبر رجحاناً للكفة الروسية على أي كفة أخرى يمكن أن تكون مؤثرة في التسوية السورية.
الآن وبعدما أطلق قطار جنيف 4 صفارته منذراً الواقفين على السكة بوجوب مغادرتهم إياها تبدو هذه الأخيرة (السكة) طويلة بل طويلة جداً ولربما كان طولها أو قصرها يتبع بالدرجة الأولى لتطورات الأحداث الداخلية والخارجية على حد سواء، لكن إذا ما أردنا التبصر فيما يمكن أن تذهب إليه مفاوضات جنيف4 يمكن القول إن هذه الأخيرة ستكون على موعد مع أحد الاحتمالات الأربعة التالية: الأول: أن تؤدي الضغوط الدولية ومعها واقع المعارضة إلى قبول هذه الأخيرة بصفقة مع النظام تحظى برعاية دولية.
الثاني: أن يستعصي أمر التوصل إلى اتفاق ولذا يكون لزاماً على جميع الأطراف الذهاب نحو إنتاج حلول مؤقتة أو مناطقية هي أقرب ما تكون إلى الهدف مثل هدنة شباط 2016 وهدنة 29/12/2016 التي لا نزال حتى الآن نعيش في أجوائها.
الثالث: أن يستمر دوران المفاوضات في حلقة مفرغة وبمعنى آخر وجود رهان على كسب أو إطالة الوقت بانتظار حدوث متغيرات أخرى ولربما تذهب حينذاك كل من موسكو وواشنطن إلى القول إنهما سيقبلان بأي حلول يمكن أن يتوصل إليها الطرفان وبمعنى آخر أن تترك الأمور لموازين القوى على الأرض الأمر الذي يعني رجحاناً كبيراً لكفة النظام تبعاً لتلك الموازين.
الرابع: أن يفقد الخارج أمله في إمكان وصول الأطراف إلى تسوية ما فيتم الاتفاق الخارجي على فرض تسوية خارجية أيضاً على الطرفين ولربما سبق لهذا الاحتمال أن خضع لبروفة كانت ملحوظة بين ثنايا ومحطات الأستانا بنسخها الثلاث أما إذا ما أردنا ترجيح أي من الاحتمالات الأربعة على الاحتمالات الأخرى فيمكن القول إن الأول تبدو حظوظه ضعيفة ما لم تحدث هزات ميدانية كبرى كأن يستعيد الجيش السوري السيطرة على إدلب أو جسر الشغور أو إحكام سيطرته على درعا وريف دمشق، أما الثاني فهو الآخر يبدو ذا حظوظ ضعيفة لأن ما يستشف من المناخات السائدة هو وجود إصرار دولي على إنتاج تسوية سياسية سورية شاملة، على حين يتقاسم الاحتمالان الثالث والرابع الدرجة نفسها من الحظوظ إلا أنه سيكون لكل منهما تتمات خاصة به فالثالث (الدوران في حلقة مفرغة) قد يدفع موسكو وبتفاهم مع واشنطن إلى ترك الأمور لكي تحددها موازين القوى القائمة بل لربما إذا ما طفح الكيل جراء تعنت المعارضة فقد تذهب موسكو حينها إلى زيادة دعم الجيش السوري وتقديم ما يلزم لاستعادة باقي المناطق التي تتمترس فيها المعارضة السورية.
أما الرابع «فرض تسوية خارجية» فتتماته أن يتم بلورة خطة تسوية توضع أمام السوريين ومن يرفضها فسيكون في مواجهة القوة العسكرية للدول التي تفرض تلك الخطة وحينها سيقال للسوريين إن هذه الخطة هي مؤقتة أو مرحلية ولا تعدو أن تكون أكثر من جسر عبور لاستعادة الأمن والاستقرار وحينها يصبح بإمكانكم إنضاج أي تسوية يمكن أن يتم التوافق عليها وهو أمر «هذا القول» أشبه بذر الرماد في العيون لأن تغيير الاتفاقات السابقة يلزمه دائماً اضطرابات وحروب وإراقة دماء.