مسار جنيف- كي لا يترنح.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

مسار جنيف- كي لا يترنح.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٦ مارس ٢٠١٧

انطلق نيزك جنيف السوري سريعاً في 23/2 وخبا وهجه كذلك أيضاً في 3/3 من دون أن يترك أثراً أو ضجيجاً كان متوقعاً بل إنه لم يكن مترافقاً بذلك السعار الإعلامي المعتاد ولربما كانت التصريحات الهادئة والموزونة التي التزم بها كلا الوفدين هي الأساس الذي قامت عليه حالة انخفاض ذلك السعار التي لم تلاقِ كما يبدو الظروف المثلى لها لانتعاشها أو تصاعدها.
قد يكون من الجائز الآن القول إن النتيجة التي انتهت إليها الجولة الأولى هي إيجابية قياساً إلى أن طرفي التفاوض كانا يعتبرانها- كل منهما على حدة- فرصة لجسّ نبض الآخر ولربما كانت تصريحات الطرفين- على قلتها- تصّب في هذا الاتجاه، حتى أن الناطق باسم وفد المعارضة المفاوض (نصر الحريري) كان يبدو في غاية الفرح والبهجة وهو يقول: «لقد ناقشنا للمرة الأولى بعمق مسألة الانتقال السياسي» بعد أن كان قد قال قبل يومين من هذا التصريح إن «الضغوط الروسية على دمشق هي التي أدت إلى إدراج هذا الأمر على طاولة المفاوضات».
كان من الواضح أن موسكو أدت دوراً مهماً في في إدارة المفاوضات ولم يكن هناك دور يذكر لواشنطن أقلّه حتى الآن وهو ما يبدو غريباً إلا إذا كان هناك تفويض أميركي لموسكو بإدارة تلك العملية مؤقتاً ريثما تتبلور بين الطرفين توافقات معينة على مختلف الأزمات الساخنة في العالم ومنها الأزمة السورية وهو الأمر الذي يمكن أن يحصل في أعقاب لقاء الرئيسين الأميركي والروسي وإن كان مقدراً لهذا اللقاء أن يطول انتظاره- كما يبدو- انطلاقاً من العقبات الموضوعة أمامه وفي طليعتها الملف القضائي الخاص بالتحقيق في وجود دور روسي مفترض في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت مؤخراً (تشرين الثاني 2016) والنتائج التي أفضت إليها، ومن الواضح أن تلك الأصابع هي التي تمسك بـ«الحنفية» التي تتحكم بالضخ الذي يزيد- أو يقلل- من تأثيرات ذلك الملف تبعاً لحاجة «السوق» السياسي الأميركي الذي بات محكوماً الآن بصراع خفيّ بين البيت الأبيض وبين ما يعرف بالمؤسسة الحاكمة في الدولة العميقة.
من المؤكد أن أي نظرة واقعية للدور الذي تمارسه روسيا في سورية منذ بدء الأزمة السورية في آذار 2011 سوف تفضي إلى أهمية وحجم ذلك الدور الذي يستحق الكثير من التقدير. فموسكو كانت قد عملت على دعم الحكومة (والدولة) السورية بقوة في مواجهة مختلف العواصف التي كانت تترصدها وقد استخدمت من أجل ذلك الفيتو في مجلس الأمن سبع مرات بدأت في تشرين الأول 2011 وكان آخرها يوم 28/2/2017 عندما وقفت بوجه مشروع قرار غربي يهدف لفرض عقوبات على النظام السوري بذريعة استخدامه للأسلحة الكيماوية، وقد كان لافتاً امتناع مصر عن التصويت على ذلك القرار إلا أن المطلوب من القاهرة بالتأكيد هو أكثر من ذلك تحت أي ظرف كان، إذ لا يعقل أن يكون الموقف المصري على الدرجة نفسها التي جاء عليها الموقفان الكازخستاني والأثيوبي اللذان امتنعا هما أيضاً عن التصويت، ولم يقف الأمر عند حدود الدعم السياسي فقد تعداه إلى تدخل عسكري مباشر في أعقاب عاصفة السوخوي 30/9/2015 التي كانت بتوافق روسي أميركي مؤكد، وهي (موسكو) لم تساوم على ضرب الدولة السورية أو إسقاط نظامها على الرغم من سيل الرشا المنهال عليها، وقد كان ذلك- بالتأكيد- ينمّ عن إدراك عميق للدور الذي تلعبه الحلقة السورية في المنطقة وخطورة انكسارها وهو ما اختصره سيرغي لافروف في صيف العام 2013 عندما قال لوفد المعارضة الذي كان يزور موسكو: «إننا ندافع عن موسكو في دمشق» ، وجميع ما سبق يحسب لها، بل ومن الممكن لنا أن نتفهم المسعى الروسي الذي يهدف إلى قطف الجوائز أو تحصيل المكاسب خصوصاً إذا ما كانت اقتصادية فهي بالنهاية سوف تكون من نصيب هذا الطرف أو ذاك، إلا أن ما لا يمكن تفهمه أن يصل التفرّد الروسي إلى الإمساك بالريشة التي سترسم لوحة سورية الغد، فهذا بالتأكيد يعتبر أحد أكبر المعوقات في إنجاز تلك اللوحة ولا مصلحة لأحد- ولا للروس- في أن تنجز هذه الأخيرة بأي شكل من الأشكال لأن الحلول المفروضة من الخارج من الصعب لها أن تستمر طويلاً في الداخل انطلاقاً من أن واضعيها ومهما بلغت درجة إحاطتهم بتفاصيل الأزمة فإنهم يفتقدون فهم حركة البلازما السورية وضوابطها، ناهيك من أن الماء الذي يأتي من مكان بعيد لا يمكن له أن يطفئ حريقاً قريباً.
كان من الواضح أن موسكو تسعى قدر الإمكان إلى محاصرة الفشل ومنع الانفجار عبر إرضاء هذا الطرف أو ذاك ولربما كانت هي أيضاً التي تقف وراء عدم إطلاق التصريحات الاستفزازية التي تشكل قنابل موقوتة وفي الآن ذاته لا تقدم- ولا تؤخر- في مسار المفاوضات الجاري داخل الغرف المغلقة، إلا أن تلك السياسة وخصوصاً منها إرضاء الأطراف هي سيف ذو حدين فالذهاب إلى إدراج ما يراه هذا الطرف- أو ذاك- مناسباً يعتبر بالتأكيد أمراً سلبياً على سير المفاوضات وهو يشكل بالتأكيد خروجاً على القرار 2254 «كانون الأول 2016» الذي صاغته موسكو بالدرجة الأولى والذي أعلن قبيل المفاوضات أنه الأساس الذي سيتم التفاوض عليه، بل إنه في حالة متقدمة يمكن فيها الاستجابة للعديد من المطالب تحت طائلة «الحَرد» والانسحاب من المفاوضات يصبح حينه هذا الطرف الأخير هو المحدد الأكبر للإطار العام الذي تجري فيه المفاوضات، ولا يعقل أن يكون خافياً على موسكو أن الساحة المعارضة السورية «السياسية والعسكرية على حد سواء» كانت قد شهدت في الآونة الأخيرة وخصوصاً بعد تموز 2016 «الذي شهد انفكاكاً إعلامياً لجبهة النصرة عن تنظيم القاعدة» وتداخلاً كبيراً بين أنسجتها أو بمعنى آخر جرى تسرب العديد من خيوطها كي تتم زركشة هذه الرقعة أو تلك، وبهذا المعنى فإن وفد المعارضة السورية إلى جنيف هو إحدى تلك الرقع التي تمّ التسرب إليها بضوابط معينة وهو يرفض إلى الآن ضم منصة موسكو إليه حفاظاً على تلك الضوابط.
كانت تصريحات ستيفان دي ميستورا التي أعقبت انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات مهمة وهي في الآن ذاته تحمل العديد من الدلالات على الرغم من أنه- على الأرجح- تعمد أن يتحاشى الغوص في الأعماق، فالإعلان عن «إزالة أي لبس فيما يتعلق بالقرار 2254 وبإمكان تطبيقه على سورية» هو أمر ايجابي بالتأكيد، إذ لطالما كانت جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن تحتاج هي الأخرى إلى توافقات على فهمها وخصوصاً عندما تتم ترجمتها من النص الإنكليزي الأصلي إلى اللغات الأخرى، وتجاوز هذه العقبة يعتبر إنجازاً مهماً وحصيلة جيدة، كما أن الإعلان عن أن «العديد من القضايا باتت واضحة جداً مثل تشكيل حكومة غير طائفية خلال ستة أشهر» فهو يعبر بوضوح عن المسار الذي تتجه الأمور إليه وهو من المؤكد أنه بعيد عن المحاصصة الطائفية التي اعتمدها الأخضر الابراهيمي لإنجاز اتفاق الطائف اللبناني 1989 ومن ثم حاول تكرار تجربته في سورية، إلا أن تلك المحاولة كانت محكومة بالفشل، فسورية لا تحتمل أنماطاً كهذه من الأنظمة التي يصعب أن تكون مدعاة للاستقرار لاعتبارات عديدة لعل أهمها يكمن في النجاح- النسبي- لتجربة العلمانية في سورية، صحيح أن تلك التجربة لم تكن مثلى إلا أن الصحيح أيضاً أنها قد أنتجت المناخات التي مكنت البلاد من السير قدماً في طريق تطورها ونهوضها، وهي اليوم «التجربة العلمانية» باتت حالة سياسية متأصلة يصعب تجاهلها أو العودة إلى ما قبلها تحت أي ظرف كان.
جولة جنيف 4 الأولى كانت إيجابية إلا أنه من الصعب التنبؤ إذا ما كانت الجولات المقبلة ستكون كذلك أيضاً وخصوصاً في حال تغليب العامل الخارجي على نظيره الداخلي كما هو واضح في وفد المعارضة، ولذا فإن الإيجابية- أو السلبية- تصبح متوقفة على مطالب العامل الأول الذي يمر الآن بمرحلة اضطراب قصوى في ظل تقلبات تركية تبدو فيها السياسات وكأنها أشبه ما تكون بالأرجوحة التي تلامس قطبي مسارها في خلال وقت قصير للغاية، وفي ظل إدارة أميركية تبدو مضطربة أو يصعب حتى الآن التنبؤ بمواقفها تجاه الأزمة السورية.
وعليه فقد كانت استعادة الجيش السوري لتدمر «2/3/2017» أكثر أهمية من مخاض جنيف إذا ما قيس الاثنان بمقياس التأثير الإيجابي في عملية إنهاء الأزمة السورية.