بانتظار «أم المعارك» البرلمانية: هل سيكتفي ماكارون بـ«الختم الدائري»؟

بانتظار «أم المعارك» البرلمانية: هل سيكتفي ماكارون بـ«الختم الدائري»؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٩ مايو ٢٠١٧

فرنسا – فراس عزيز ديب

هكذا؛ رسَّخت العولمة المتوحِشة ابنها البار «إيمانويل ماكارون» رئيساً لفرنسا في انتخاباتٍ يمكننا تسميتها الباهتة، إن كان من حيث المشاركة أم الحماسة. الرئيس المنتخب الذي كتبَ فيه بعض الصحفيين العرب معلقات غزلٍ لدرجة أن ولي ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» قد يشعر بالغيرة لأن هذا الكلام لم يُكتب عنه، بدا أكثر حماسة لما هو قادم. لم يخطِئ الرجل عندما تحدث في خطابِ النصر من أمام ساحة اللوفر عن الذين قلّلوا من فرصِ انتصارهِ أو حتى تأهلهِ للدور الثاني عندما أعلن ترشحه، لكن لربما ما أخطأ فيه عندما أرجعَ نظرتهم السلبية تلك لأنهم (لا يعرفون فرنسا والفرنسيين). أفرطَ في الثقة عندما طرح هذا الوصف، بل علينا أن نسأله ونسأل كل من آمنَ بهذا الشعار وصفقَ لهُ: هل حقاً أن (فرنسا والفرنسيين) باتوا غير واضحين حتى أمام طبقتهم السياسية؟
ربما على الطبقة السياسية الفرنسية أن تجلس اليوم وتفكر ملياً، فالفريق المنتصر مستسلم لبديهيةِ أن الفرنسيين قالوا كلمتهم، والفريق الخاسر لا يبدو أنه سيرفع الراية البيضاء بهذه السهولة، والنتيجة هي تعميق الشرخ أكثر والأرقام لا تكذب. بنظرةٍ سريعة نرى أن نسبة من قاطعوا الانتخابات في الدور الثاني وصلت في بعض الأقاليم لحدود 30 بالمئة، هذه الأرقام يُنظر إليها اليوم مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية بالكثير من الحذر والمفارقة واضحة:
الأغلبية العظمى من مؤيدي حزب الجبهة الوطنية ومرشحته «مارين لوبين» حُكماً صوتوا، لأن الأمر بالنسبة لهم كان مسألةَ حياةٍ أو موت وفرصة لن تتكرر. هذا ليس من باب الافتراض لكن أثبتته الإحصائيات في الأقاليم التي فازت بها «لوبين» إذ بلغت نسبة التصويت في بعضها أكثر من 90 بالمئة. هذا يقودنا لنتيجةٍ منطقيةٍ بأن الممتنعين عن التصويت حكماً من الذين يقفون ضد سياسة اليمين المتطرف، لكنهم بذات الوقت غير معجبين بصعود ماكارون وهم فعلياً اليوم في حالٍ من الضياع السياسي، بل إن السعي لاستقطابها سيكون أولوية كبيرة للأحزاب السياسية مع انطلاق الانتخابات البرلمانية في الشهر القادم، ما يعني أن المعركة الأهم بالنسبةِ للرئيس الجديد قد بدأت لكن هذه المرة لا تبدو معركته وحده بل إن جميع الخاسرين يرون بهذه الانتخابات فرصة لقلب الطاولة على الرئيس المُنتخب وفرملته.
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة واعتماد دستور عام 1958، كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية هي صورة عما ستكون عليه نتيجة الانتخابات البرلمانية تحديداً في العقدين الأخيريين، فمثلاً انتصار الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في انتخابات 2007 أدى لنجاح الديغوليين في السيطرة على البرلمان، كذلك الأمر فإن انتصار فرانسوا هولاند في انتخابات 2012 حمل معه أغلبية برلمانية اشتراكية سهَّلت مهامه. هنا يكمن دور الأغلبية البرلمانية، الحزبية تحديداً بغض النظر عن التحالفات، في تسهيل عمل الرئيس الذي وحسب المادة الثامنة من الدستور هو من يسمي رئيس الوزراء، لكن الأغلبية البرلمانية هي التي تختاره، وعندما تكون هذه الأغلبية البرلمانية هي امتداد للرئيس فإن الحزب يسيطر فعلياً على مفاصل السلطتين التشريعية والتنفيذية. أما عندما يكون رئيس الجمهورية لا يملك أغلبية برلمانية فإن الأمور تصبح كيدية لحدٍّ كبير. هذا الأمر دفع مثلاً الرئيس الفرنسي السابق «جاك شيراك» في منتصف التسعينيات لحل البرلمان والدعوة لانتخاباتٍ جديدة، لأن رئيس الجمهورية من دون أغلبيةٍ برلمانيةٍ يصبح معزولاً.
في الوضع الحالي للرئيس المنتخب فإن الأمور لا يلفها الغموض فحسب، لكنها تدخل في الحسابات المعقدة التي قد تُفضي لنتائج تجبر الكثير من الأطراف على تقديم التنازلات فما الذي يثبت ذلك:
أولاً: على الورق فإن ماكارون لا ينتمي لأحد قطبي الحياة السياسية الرئيسيين اليمين أو اليسار، بل إنه ينتمي لحزبٍ صغير أسسهُ بعد انشقاقهِ عن اليسار. هذا يعني أنه إما سيخضع مستقبلاً لتوجهات الكتلة البرلمانية الأكبر وإما أنه سيسعى لتشكيل كتلةٍ برلمانية خاصة من تجمع عدة أحزاب. لكن حتى هذا الأمر يبدو بعيداً لأنه في هذه الحالة سيستند للحزب الاشتراكي الذي خرج منه وعندما ننظر لأرقام هذا الحزب في الانتخابات الرئاسية سنجد أن مرشحه «بينوا هامون» حصل على سبعة بالمئة فقط من الأصوات وهي أرقام مُخجلة لرئيس يريد الاتكال على كتلة وازنة. حتى دعوات البعض لضم شخصياتٍ لها وزنها لحزب الرئيس «إلى الأمام» ومن بينهم رئيس الوزراء السابق «مانويل فالس» لا يبدو أنها ستكون العلاج الشافي ولنتذكر أن فالس مثلاً لم ينجح حتى بتخطي الانتخابات الحزبية. ثم إن الرئيس المنصرف «فرانسوا هولاند» لا يبدو أنه بوارد السماح لحزبه بالانهيار لهذا الحد حتى ولو من أجل عيون «طفله المدلل».
ثانياً: السيناريو الأسوأ للرئيس الجديد أن ينجح اليمين بالحصول على الأغلبية البرلمانية وهو أمر لا يبدو أنه بعيد، عندها سيكون عليه إطاعتهم بخيارهم المتعلق بشخص رئيس الوزراء، علماً أنهم ما زالوا يمتلكون شخصيات لها وزنها على رأسها «فرانسوا فيون». هنا نستطيع القول إن الحياة السياسية الفرنسية دخلت في مرحلة شلل وهي ما يسمونها مرحلة «التعايش» بين الرئيس ورئيس وزرائه عندما لا يكونان من التوجه السياسي ذاته، عندها هل سيطبق اليمين برنامج «فرانسوا فيون» الانتخابي أم إن ماكارون سيضع شعار «إلى الأمام» جانباً لأنه يعي تماماً أن هناك من سيضع له العصي بالعجلات؟
ثالثاً: وهو ما يمكننا تسميته السيناريو الكارثي، ماذا لو نجح اليمين المتطرف بحصد الأغلبية البرلمانية؟ منطقياً يبدو الأمر بحاجةٍ لمفاجأة، لكن إذا كان ماكارون نفسه اعتبر أن انتخابه مفاجأة فلماذا سيكون من الصعب تكرار مفاجآت كهذه؟ لكن في الطرف المقابل لا يمكننا إطلاقاً أن نستثني حدوث مفاجأة كهذه، فمرشحة اليمين المتطرف جمعت 35 بالمئة من الأصوات في الوقت الذي اتحد فيه الجميع ضدها بمن فيهم نجوم الرياضة الذين اضطروا للتدخل بالسياسة، لكن في الانتخابات البرلمانية الأمر مختلف، بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك للقول إن نسبة 65 بالمئة التي حصل عليها ماكارون ستتوزع في الانتخابات البرلمانية على جميع الأحزاب بغض النظر عمن سيكون له الأغلبية، أما نسبة 35 بالمئة التي حصلت عليها لوبين فهي تكاد تكون خالصة لها وثابتة، الفكرة بسيطة:
المتطرف يبقى متطرفاً ولن يذهب ليصوت للخصم، لكن العكس قد يبدو أكثر احتمالية، عندها هل يستطيع أحد أن يتوقع ما سيكون عليه شكل فرنسا الجديد؟ مشكلة اليمين المتطرف يبدو أنها سهلة الحل، الأمر الأول يتعلق بالتخلص من عبء التاريخ الأسود لـ«جان لوبين» وما تلاه من تعقيداتٍ في خطاب «مارين لوبين» والمجيء بشخصيةٍ أكثر اتزاناً في طرح مواقف الحزب، تحديداً أن المشكلة فيما يبدو ليست بما يفكر فيه الحزب، بقدر ماهي طريقة طرح المواضيع، فماذا ينتظرنا؟
عند بدء الانتخابات في الدور الأول ومع ارتفاع حظوظ ماكارون قلنا يومها إن الرئيس الفرنسي القادم لا يعدو كونه «مختاراً» قد لا يمون على شيء. الحكومة القادمة أياً كانت هي بالمطلق حكومة «بروتوكولية»، ستحكم لأسابيع حتى إنجاز الانتخابات، لذلك فالجميع الآن بات ينظر للمعركة الانتخابية القادمة من باب أنها «أم المعارك»، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك بالقول إن المعارك الحقيقية ستبدأ بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية؛ إما أن يحصل ماكارون و«من جاء به» على فرنسا كـ«سلةٍ كاملة»، أو أن يتحول فعلياً إلى «مختار» بيده فقط «ختم الخارجية الدائري»، لكن حكماً وأياً كانت النتيجة فإن عهداً من «اللاتوازن السياسي» على الأقل قد بدأ، فهل سيتطور نحو الاضطراب؟ لمَ لا؟ إنه زمن المفاجآت.
الوطن