ترامب بعد «كومي».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

ترامب بعد «كومي».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ١٥ يونيو ٢٠١٧

شهدت الولايات المتحدة منذ قيامها في العام 1789 فضيحتين كبيرتين هزتا البيت الأبيض، الأولى كانت في عهد الرئيس الأميركي التاسع والعشرين وارين هارد نج الذي صعد إلى الحكم في العام 1921 وتوفي بظرف غامض في العام 1923، وفي خلال مدة حكمه القصيرة افتضح أمر وزير داخليته الذي كان يبيع الاحتياطي النفطي الأميركي لحسابه الخاص، والثانية كانت في عهد الرئيس الأميركي السابع والثلاثين ريتشارد نيكسون عندما قام الصحفي الأميركي الشهير بوب وود وارد، بنشر مجموعة من التحقيقات تثبت تورط نيكسون في التجسس على مكاتب الحزب الخصم، لتسري تلك التحقيقات كما النار في الهشيم دافعة بـنيكسون إلى الاستقالة في العام 1974.
اليوم تزامن وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة في كانون الثاني 2017 مع تسريبات تشي بدعم روسي كان قد أوصله إلى البيت الأبيض، الأمر الذي وضعه في دائرة بدت وكأنها آخذة بالتضيق أكثر فأكثر، ظهر ذلك في ارتباك القرارات الصادرة عن البيت الأبيض التي كان أهمها إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي في العاشر من أيار المنصرم، لتتخذ المسألة بعداً بدا تصاعدياً أو لا إمكان لعودته إلى الوراء، مع تعيين مستشار قانوني خاص يتولى التحقيق الموسع في العلاقة بين ترامب والروس في الـ 17 من أيار الماضي، الأمر الذي شكل خطراً حقيقياً بات يتهدد سلطات ترامب، ولربما كان الكثيرون ممن لا يريدون بقاء ترامب في البيت الأبيض، قد راهنوا على الشهادة التي سيدلي بها كومي أمام لجنة مجلس الشيوخ الأميركي في الثامن من حزيران الجاري.
قبل أن يمثل كومي للشهادة كان هناك ترقب ذو وقع زلزالي في حال أنه قال إن ترامب كان قد طلب منه بشكل خاص تجاهل تحقيق قضائي يتناول أحد مستشاريه المقربين الجنرال مايكل فلين وعلاقته مع روسيا، وما حدث هو أن كومي لم يقدم للمراهنين غاية أمانيهم فهو على الرغم من أنه أعلن أنه ما من شك لديه بأن الحكومة الروسية كانت وراء التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تشرين الثاني من العام الماضي، مضيفاً: إن موسكو كانت قد بذلت جهداً جباراً لاختراق نظامنا الانتخابي، إلا أنه قال أيضاً: أنا لا اعرف إذا ما كان ترامب يريد إعاقة سير العدالة في البلاد وعلى المحقق المختص أن يقدر الأمر بنفسه.
باختصار كانت شهادة كومي من نوع «حمّال الأوجه» فهي لم تنقذ مركب ترامب المترنح، لكن في الآن ذاته لم تحكم عليه بالغرق عبر توسيع الثقب الذي يتسرب منه الماء إلى الداخل، وعليه فالسؤال المشروع الآن هو: إلى أين تتجه التحقيقات ما بعد شهادة كومي، وما هي الآفاق المتوقعة لها؟
دخل ترامب البيت الأبيض بشعارات شعبوية جعلته خصماً للمؤسسة الحاكمة الأميركية بأهم تشعباتها: «CIA»، البنتاغون، المؤسسة القضائية، إلا أن تلك الخصومة لم تستمر طويلاً والراجح أن ترامب كان قد فهم اللعبة جيداً، وظهر ذلك في العاشر من نيسان الماضي عندما قام بقصف مواقع الجيش السوري في مطار الشعيرات كمؤشر لحسن نيات الرئيس أو كعربون ود لبدء مرحلة جديدة، ولنا أن نلمس في الكثير من المواقف أو التصريحات التي كانت تترك انطباعاً لدى المتابع مفاده أن ترامب بات جاهزاً للقولبة التي لطالما كانت أحد أهم الشروط التي تتحكم بنجاح الرؤساء أو دوام حكمهم، ولذا فإن المخاطر على ترامب في هذه المرحلة لا تبدو مهمة، وبالتأكيد هذا لا يعني أن التحقيقات سوف تتوقف غداً أو بعد غد، فالسهم قد انطلق من القوس ولم يعد بالإمكان أعادته إلى المكان الذي انطلق منه، وإن كان لم يصب هدفه، «وذاك أمر مقصود بالتأكيد»، لكي يبقى خيار التلويح بإطلاق سهم آخر خياراً قائماً ومن الممكن له أن يمزق الهدف أو يؤدي إلى إعطابه.
بدا لافتا أن هناك الكثير من المحللين الذين كانوا يرون أن عملية إزاحة ترامب ماضية في طريقها، حتى إن البعض كان قد قال إن هذا الأخير لن يقضي أعياد الميلاد ورأس السنة القادمين في البيت الأبيض، إلا أن المؤكد أن تلك التقديرات كانت متسرعة ولربما يمكن تلمس العديد من المواقف التي تؤكد أن تلك العملية «إزاحة ترامب» قد فقدت زخمها أو هي بردت حرارتها، ولما لا و«الثور» قد عاد إلى الخط الذي أراده «الفلاح» له، ناهيك عن أن غرف صناعة القرار الأميركية تدرك جيداً الأثر البعيد الناجم عن عملية الذهاب بفضائح كهذه إلى نهاياتها، فكيف الأمر إذا ما كانت التهمة الآن هي وجود أيد خارجية تعبث بالداخل الأميركي، بل وصلت أيضاً إلى أعمق أعماقه، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تداعيات مضاعفة لتلك التي أدت إليهما الفضيحتان سابقتا الذكر.
ترامب آمن، أقله في ظل المعطيات الراهنة، من دون أن يعني أن ذلك المسار سوف يمضي هكذا حتى نهاياته، الأمر يتوقف على مقدرات ترامب «الحربائية» التي قد تمكنه من «ألا يموت الديب ولا يفنى الغنم».