كي لا تضيع البوصلة: «الأزمة البدوية» والضوابط الأميركية

كي لا تضيع البوصلة: «الأزمة البدوية» والضوابط الأميركية

تحليل وآراء

الجمعة، ١٦ يونيو ٢٠١٧

 يحيى دبوق
من يربط الأزمة القطرية، فقط، بمحركات عربية بينية، وينزع عنها المحرك الأميركي، يُضيِّع البوصلة. نعم، لـ«الاستراتيجيا البدوية» مكان في تحريك الأزمة، لكن لا قيمة حقيقية لها، من دون دفع و/أو سماح أميركيين، وإلا ما كانت الأزمة لتبدأ ولما كانت لتستمر.
إلا أنّ قراءة سياقات الأزمة، من منظور المصالح الأميركية، لا تفضي إليها.

لو أرادت الولايات المتحدة تطويع قطر، لكان يكفي رفع الإصبع كي تتحقق إرادة واشنطن. لا لزوم لوسائل ضغط عربية، أو «حصار» عربي و«مقاطعة» واتهامها بدعم الإرهاب. هذه حقيقة لا لبس فيها، ولا يجب تضييعها.
الأزمة القطرية قد تكون نتيجة لمجموعة عوامل، تقاطعت في ما بينها، فأولدت النزاع الحالي، بمعنى تظهير الخلاف الخليجي علناً، بعدما كان مضبوطاً بلا مظاهر خارجية. لا يوجد في هذه المرحلة معطيات خلاف بين دول البيت الواحد، تضاف إلى ما كانت عليه خلال السنوات الماضية، دفعت إلى تظهير الأزمة. الامتعاض السعودي ــ الإماراتي من قطر، وعوامله، موجود ولم يستحدث، لكن كانت الضابطة الأميركية تمنع إخراجه إلى العلن، خوفاً من تداعياته. هذا ما حدث عام 2014، حين فرملت الإدارة الأميركية السابقة اندفاعة الرياض وأبو ظبي، لكنها الآن، عمدت إلى خلاف ذلك؟
دفعت السعودية «خوّة الحماية» بمئات المليارات إلى الولايات المتحدة، كي تتفادى شر الوافد الجديد إلى البيت الأبيض. تلقّت واشنطن «الخوّة» بترحيب، وأعطت الرياض ما كانت قادرة على إعطائه لها: كلمات ودّ. أما ما قيل عن دفع السعودية للولايات المتحدة كي تحارب إيران ومنع تمدد نفوذها في المنطقة، فهو لزوم ما لا يلزم، ومحاولة دفع أميركا لفعل الأفعال التي تقوم بها بلا تحفيز ضد إيران. الخوّة المدفوعة لن تزيد وتيرة ومستوى الضغط على الإيرانيين، حيث إنها مفعلة بحدودها القصوى، ضمن الحدود المقدور عليها أميركياً.
من هنا، كان يفترض بمفاعيل قمم الرياض أن تنتهي عند انتهائها، عدا ما يتعلق بدفع المال السعودي، وعدا ما يتعلق بالمواقف الأميركية التي تظهر التحالف مع المملكة والوقوف إلى جانبها. لكن فوّت صاحب القرار في الرياض أن الموقف الأميركي تجاه أفعاله لن يتجاوز القول إلى العمل، بما لا يتعارض مع مصالح أميركا وقدراتها الفعلية. لكن في الرياض من ظنّ أن بإمكان دفع المال تغيير السياسات والاستراتيجيات وفعل غير الممكن.


في المنازلة الحالية، بين قطر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة مقابلة، تقف الولايات المتحدة لفظاً إلى جانب السعودية، لكنها في الواقع تقف على الحياد. الموقف الأميركي يتلخص في الآتي: يمكن لأبو ظبي والرياض فعل ما تريدان، وتظهير كل خلافاتهما مع قطر، لكن ضمن ضابطة عدم الإضرار الفعلي بالحليف القطري، ولهما كل الودّ والمحبة الأميركيين ضمن هذه الضابطة. وضمن هذه الضابطة أيضاً، إن استطاع الضغط الوصول إلى نتائج، فلن تكون واشنطن معارضة، بل مرحّبة، وستجيّرها لمصلحتها باعتبارها هي محرك الضغوط. تثقيل النفوذ والحضور السعودي الاماراتي على حساب النفوذ والحضور القطري، لن يغيّر في ميزان المصالح الأميركية شيئاً، والعكس صحيح، وكلاهما يتحركان ويصبّان في خانة هذه المصالح وفي خدمتها.
من جهة واشنطن، ومهما كانت النتائج، لا ضرر ولا ضرار. وستتعامل مع الموقف المؤيد لفظاً للسعودية على أنه العائد ويزيد، مقابل المال المدفوع سعودياً. وللسعودية أن تضغط ما تشاء، وتحاصر ما تشاء، إن كان هناك حصار فعلي. أما من ناحية قطر، فلها أن تمانع ما تشاء، ما دامت الضغوط والممانعة لا تفضيان إلى ضرر مباشر بالمصالح الأميركية، فليكن ما يكون.
ضمن قواعد الاشتباك المضبوطة بين الجانبين، التي لا تقدر أن تصل إلى خاتمة متطرفة ما لم تكن رعونة الولايات المتحدة متطرفة أيضاً، يمكن القول إن الأزمة بدأت في أقصى ما يمكن أن تصل إليه، ويوماً بعد يوم تتقلص. نعم، الوضع بين الجانبين لن يعود إلى ما كان عليه، لكن الأزمة تجاوزت حدها الأقصى. هي شجرة شاهقة تسلقتها السعودية، والنزول عنها بلا إنجازات انكسار كبير للرياض، تماماً كما هي حال قطر، في حال الاستجابة غير المضبوطة للإملاءات السعودية.
في هذا السياق، فإن تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تعلن العداء لقطر أو حرمانها من وصف الدولة التابعة لسياسات أميركا، وجلّ ما جاء فيها أنه لا بأس بها في حال نجاح السعودية والإمارات في تطويع قطر، في حين جاءت كل التصريحات والمواقف الأميركية الوازنة الأخرى لتشدد على وحدة الصف وضرورة الوصول إلى حل، وعلى أن «الأزمة لن تؤثر سلباً على مصالح أميركا واستراتيجياتها». وبين تغريدات ترامب والتصريحات الأميركية الوازنة، لا خلاف كما تراءى للبعض. لسان حال الإدارة الأميركية يقول: نعم للسعودية ونعم لضغوطها، ولا بأس بتطويع قطر وإلحاقها بالدائرة السعودية، فجميع الحلفاء حلفاء، وسيبقون كذلك، بمعنى الاتباع، سواء انقادت قطر للسعودية أو تمايزت عنها. أما الدائرة الأكبر المحظور تجاوزها، فهي المصالح الأميركية الأوسع.
من شأن الأزمة، أيضاً، أن تفضي إلى فرص، قد لا تكون ملحوظة ابتداءً من ناحية الولايات المتحدة، لكنها لم تكن بحد ذاتها دافعاً لواشنطن كي تحرك الأزمة، لولا استراتيجية البداوة الخليجية: التخلص مسبقاً من أطراف قد تشوّش على توجهاتها المستقبلية في المنطقة، وتحديداً الدفع بلا إزعاج باتجاه التحالف العلني بين إسرائيل ودول الاعتدال العربي، هذا إن قُيِّض للتحالف العلني النجاح. وهو ثمن لا يستعصى سحبه من قطر، ضمن تسوية تضمن ماء الوجه. المعنى، أن التخلص من تشويشات الحلف العربي الإسرائيلي يكون مسبقاً، بدل أن يكون لاحقاً. وهو أدنى الأهداف الممكن تحقيقها من المنازلة الحالية.
الفرصة الثانية تتعلق بالتقديرات التي كان يشوبها شك، حول موقف شعوب الدول العربية، التي برهنت الأزمة أنها ستكون منقادة ومنساقة لكل ما قد يقدم عليه حكامها، بما يشمل عامة الأفراد، والنخب وعلماء الدين التابعين بالمطلق للسلاطين، الذين أثبتوا من جديد انقيادهم المطلق وتماهيهم مع أهواء الحكام. الأزمة من هذه الناحية كانت كاشفة، ومن شأنها أن تدفع أكثر إلى تحقيق التحالف مع إسرائيل، بلا خشية، وأوهام خشية، من رد فعل الشعوب.
لكن، مع كل ذلك، يجدر إعادة التذكير بمستوى الفجور والبداوة وتسخيف العقول وانقياد البعض وراء ذلك، إذ للمفارقة، تُتّهم قطر بتمويل الإرهاب من قبل جهات انطلقت منها بذور التكفير والإرهاب وتناميه وما زال. وكأن الإساءة تتّهم مسيئاً، بفظاعة فعل الإساءة.