الجزار لا يصادق الخروف.. أميركا والسعودية نموذجاً.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

الجزار لا يصادق الخروف.. أميركا والسعودية نموذجاً.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢ أغسطس ٢٠١٧

إذا ما نجح المحور السوري الإيراني مع حزب اللـه لتثبيت قواعده وتحصينها على الحدود السورية العراقية، وهو ما يبدو أنه فاعله برغم الاستهداف الأميركي المباشر، وكذا إذا فعلت القوات العراقية مدعومة بحشدها الشعبي على الطرف الآخر من الحدود، فإن ذلك يعتبر عملياً، تحولاً إستراتيجياً عميقا له الكثير من التداعيات في الصراع الدائر في المنطقة والتي ستنعكس حتماً في كثير من المآلات التي يمكن أن يصل اليها.
تهادت الأزمة السورية، أو فقدت جذوتها ولم تعد محل سعار دول الخليج، ولا عاد التحريض على الفضائيات أمراً مهماً، ولربما كانت هذه المناخات، تشكل مدخلاً بارزاً لإنتاج تسوية سياسية لها حتى ولو لم يكن ذلك مرتبطاً بالأزمة اليمنية التي تتشابك أغلبية الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية فيها، وما يجعل هذه الفرضية أمراً متاحاً هو طبيعة المصفوفات الجيوسياسية والإستراتيجية التي تفرزها كل من الأزمتين في محيطها وكذا طبيعة التعاطي الأميركي الروسي مع كل منهما.
لم يكن ببال أمراء الحرب الخليجيين والسعوديين تحديداً، أن تصل الأمور في المنطقة إلى ما وصلت إليه، وإلا فبالتأكيد لما كانت السياسات التي اعتمدوها هي نفسها، ولما مارسوا استنزاف خزائنهم إلى ما دون الخط الأحمر، قبل أن يأتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب ويكنسها تماماً، والشاهد أن الحسابات السعودية قد ارتكبت أخطاء إستراتيجية فادحة في أزمات المنطقة الكبرى في سورية واليمن، بل حتى في الأزمة القطرية المنفجرة مؤخراً، وفي الثلاث كانت الغايات مرتدة على أعقابها، ففي الأولى (سورية)، كان الهدف السعودي المعلن هو ضرب النفوذ الإيراني في المنطقة لكي لا يشكل «أسورة» تحيط بالمعصم السعودي من جميع الجهات، وما جرى هو أن الحماقة السعودية قد أدت إلى تزايد النفوذ الإيراني، بل لربما تؤدي المزيد من الحماقات المقبلة والمرجحة إلى المزيد من تراكم النفوذ الإيراني بفعل المناخات التي فرضتها الحسابات السعودية السيئة، وفي الثانية (اليمن) لم تستطع الرياض تقدير الموقف الأميركي ولا مصالح واشنطن هناك، ومن المؤكد أن الرياض كانت لحظة تدخلها في اليمن أواخر آذار 2015 كانت بصورة أخرى مختلفة عن تلك الصورة المتشكلة الآن بعد مرور نحو ثلاثين شهرا على بدء الحرب، كان سوء الحسابات قد أدى إلى الوقوع في مستنقع لا يمكن الخروج منه إلا بأثمان باهظة ودفعها لا يكفي إلا بعد توافقات مع قوى إقليمية عديدة لابد لها أن تستثمر في الخاصرة السعودية الرخوة أو في «كعب آخيل» الرياض.
أما في الثالثة (قطر) ففيها كانت ثالثة الأثافي والهدف المعلن هو تأديب قطر وإعادتها إلى بيت الطاعة السعودي مهانة ذليلة بعد قصقصة جميع أذرعها التي كانت تستخدمها في محاولاتها لتكبير حجم «البالون المنفوخ» وما جرى هو العكس تماما، فقد أنتجت الأزمة القطرية وجوداً عسكرياً تركياً ليس مقدراً له أن ينتهي عما قريب، وهو في ظل تنافس الرياض مع أنقرة على الزعامة الإسلامية «السنية»، سيشكل حجر رحى تطبق على الصدر السعودي، وإذا ما قدر لأنقرة أن تتقارب مع طهران بدرجة أكبر مما هي عليه الآن، فحينها ستقع الرياض بين حجري الرحى الإيراني والتركي والتي ستصبح هي من يحدد نوع الجريش الناتج على امتداد المنطقة.
كل هذا التراكم من الأخطاء الجسيمة ليس مصادفة أن يحدث بالتزامن مع انتقال السلطة إلى الجيل الثاني السعودي الذي وضع يده عليها جزئيا منذ اعتلاء الملك سلمان عرش المملكة في كانون الثاني 2015، وكلياً بعد إعلان محمد بن سلمان ولياً للعهد بعيد الإطاحة بابن عمه محمد بن نايف في العشرين من حزيران الماضي، على حين يحاول هذا الجيل أن ينسب لنفسه نجاحا إستراتيجياً مفترضاً يتمثل في تحويل إعصار جاستا عن مساره السعودي، والمؤكد أن سياسات السعودية هنا لم تكن ذات تأثير حقيقي أو فاعل في الأمر إلا إذا اعتبرنا أن الموافقة على كنس صناديق المال السيادية هو فعل سياسي موفق لإيقاف ذلك الإعصار الذي تأجل فقط، وهو سيجتاح الجغرافيا السعودية من جديد عندما تنتهي مفاعيل اتفاقيات أيار 2017 التي كانت الأفظع من بين الاتفاقيات التي يمكن أن تعقد بين دولة وأخرى، والمؤكد أن ابن سلمان الذي حظي على الدعم الأميركي في أعقاب لقائه الرئيس الجديد دونالد ترامب آذار المنصرم وفيه كان قد حصل على الـ«أوكي» للقيام بما قام به مؤخراً، إلا أنه يخطئ إذا ما اعتبر أن حظوته بذلك الدعم ناجمة عن قدرته في التناغم مع السياسات الأميركية ومن بينها رمي العشرات من «الذبائح» للنمر الأميركي الجريح، فتلك أمور سيفعلها شاء أم أبى والامتناع عن الفعل من شأنه أن يؤدي إلى تداعيات يدرك على الأرجح إلى أين يمكن أن تؤدي، ولا بد له أنه قرأ أو سمع تجربة عمه الملك فيصل (1964-1975)، على حين إنه يحظى بهذا الدعم لأن غرف صناعة القرار الأميركية ترى فيه نموذجاً هو أشبه بخراف «بانورج الإمعية» التي تسير وراء الخروف الأول في المقدمة حتى ولو مضى نحو قاع سحيق لا قرار له دونما تفكير أو تردد، وهذا النموذج سيكون خلاقاً في تهيئة المناخات التي تريدها واشنطن لإتمام مشروعها في منطقة الخليج العربي، ومن المؤكد أن ابن سلمان قد اطلع على عشرات الدعوات المدعومة من قوى فاعلة في الداخل الأميركي ومدعومة إسرائيلياً أيضاً والتي تقول بوجوب وضع الثروة السعودية تحت سيطرة سلطات متعددة لا سلطة واحدة، كما هو حاصل حالياً، والشاهد هنا هو أن بيع شركة أرامكو العملاقة، سوف يشكل المحرك الأكبر لصناعة تلك المناخات إذ لطالما تمكنت الرياض من خلال هذه الأخيرة السيطرة على اقتصاد ظل متماسكاً رغم تعرضه للكثير من الهزات، وفي الغضون كانت الدولة قادرة تماماً على توفير السيولة المالية اللازمة، وقادرة في الآن ذاته، على أن تكون ممسكة بخياراتها التي تلائمها بدلا من أن تفرض عليها من الخارج، والكارثة المزدوجة هي إذا ما كان الظن السعودي يرى أن التقارب مع تل أبيب الحاصل حالياً من شأنه أن يؤدي إلى وقف دعم الأخيرة لمشروع تفكيك المملكة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تسريع عمليات تشطيب المشروع الذي ستتسارع خطواته حينها عبر جلوس الرياض على كرسي الحلاقة الإسرائيلية واستسلامها لحكايا الحلاق.
الراجح أن القيادة السعودية تدرك جيداً هذا السيناريو الأخير، لكنها اختارت أن تتعاطى معه كأمر واقع لا مفر منه فـ«المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين» كما يقول المثل المصري، فكثيراً ما قرع جرس الإنذار السعودي في السنوات الأخيرة لكن دون أن تسمع غرف صناعة القرار دقاته الصارخة لكأن صداه لم يصل إليها أو أن بها عيباً في جهاز السمع الخاص بها.
هناك في الحياة اليومية ظواهر غريبة وهي تتكرر ومن الصعب تفسيرها منطقياً، فنحن نسمع ونشهد، مثلاً، عن أناس يمكن أن يصدمهم القطار على الرغم من أن هذا الأخير يسير على سكة مستقيمة ومكشوفة لمئات الأمتار أو على مدى النظر البشري، كما أن هدير محركاته وصفارة إنذاره كافيتان لتأمين وقت كاف للهروب بسهولة، لكن ومع ذلك فإن الصدم غالبا ما يقع ويتكرر وتلك ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا بعبارة «إذا ما قرب الأجل عمي البصر» فمن جاء أجله يصبح احتكامه للعقل خارج الخدمة أو هو معطل فيفقد البصيرة وحينها يصبح البصر بلا معنى.
بصيرة صانع القرار السياسي السعودي مفقودة منذ حين وإلا فمن يصدق أن الجزار يمكن له أن يصادق الخروف، إلا لكي يكون مريحاً له في عملية الذبح.