هنا دمشق... هنا الحياة!.. بقلم: لينا زهر الدين

هنا دمشق... هنا الحياة!.. بقلم: لينا زهر الدين

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٥ سبتمبر ٢٠١٧

تخرج من إحدى أقدم مدن العالم عبر التاريخ، وفي جعبتك الكثير من الانطباعات والكلام الذي سترغب أن ترويه أو أن تكتب عنه، بالإضافة إلى كمّ هائل من الألم، نتيجة ما لحق بسوريا من قتل ودمار وخراب وتهجير. ليس لشيء إلا لأنها واجهت، وصمدت... وبقيت وفية لأصدقائها وحلفائها.
وأنت في طريقك إلى دمشق قادماً من بيروت، تتشابك الأفكار وترتبك المشاعر وتتسارع الأسئلة: كيف هي حال أهلها؟ كيف تسير أمور حياتهم اليومية؟ هل يعيشون مثلنا؟ يأكلون ويخرجون ويعملون ويسهرون؟ أم إنّ هولَ ما جرى لسوريا في السنوات الست الأخيرة أرعبَهم وأحبطهم، وأبعد كأس الفرح عن شفاههم؟
أنهينا بعض الإجراءات الروتينية عند منطقة المصنع الحدودية. وها نحن الآن في ربوع سوريا. نحو نصف ساعة هي المسافة التي تفصلنا عن قلب دمشق. كنت برفقة صديقي زاهر أبو حمدة، الصحفي الفلسطيني الذي لا يفوته تدوينُ أدقّ التفاصيل.
كان في اعتقادي أنّ الكثير من الأمور تغيّرت عن الصورة التي تركتُ عليها عاصمة الأمويين آخر مرة زرتها في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2013. وقتها كنا على موعد مع السيد أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة لإجراء مقابلة تلفزيونية معه. قبل اللقاء بساعات قليلة، انقلب المشهد 180 درجة. قدّم الروسي وقتها صيغة اتفاق في ما يخص مخزون السلاح الكيميائي السوري، يوضع بموجبها هذا السلاح تحت الرقابة الدولية، وذلك لتجنيب النظام السوري ضربات أميركية كانت محسومة! فقررت إدارة أوباما التراجع عن الضربة!
 لكنْ، لا شيء تغيّر! الشوارع مزدحمة حدّ الاختناق بالمارة والسيارات. قيل لي إن سكان العاصمة باتوا يفوقون الخمسة ملايين أي بزيادة ثلاثة أضعاف تقريباً عمّا كانت عليه قبل الأزمة! الأسواق الشعبية خليّةُ نحل وحركةُ بيع وشراء لا تهدأ.
الملاحظة الأكثر وضوحاً كانت في الإجراءات الأمنية التي أحاطت بسوق الحميدية الشهير، خوفاً من أيّ عمل إرهابي. وهذا متوقع في أي مكان، خاصة في دمشق، التي ما زالت تغرق في حربِ "توازن القوى والمصالح".
أول ما يلفت انتباهك نصبُ صلاح الدين الأيوبي الذي يقع مقابل قلعة دمشق. لا شعورياً تحضر الإسقاطات التاريخية. هنا يبدو صلاح الدين ممتطياً جواده، محاطاً باثنين من الجند العرب، وخلفه اثنان من أسرى "الفرنجة" الذين أسرَهم في أعقاب معركة حطّين.
هي دمشق التي تذكّر الأصدقاء والأعداء دائماً بأنّ ما من أحد في التاريخ حاول الاعتداء عليها إلا وذُلّ!             
القطن الدمشقي من أجود أنواع القطن في العالم. كيف لا وهو من المحاصيل الزراعية والاستراتيجية الهامة في سوريا، ويزرع بكميات كبيرة في شمال وشمال شرق البلاد. لكنّ الحرب التي فُرضت على البلاد أثّرت بشكل كبير على هذه الصناعة. وفي مقارنة سريعة، يتضح أن صادرات القطاع العام من القطن تراجعت من 192 مليون دولار عام 2010 إلى 146 ألف دولار عام 2016. خسائر فادحة!
كان لا بد إذاً من التوقف عند عدد من المحال لشراء بعض الملابس القطنية. يستوقفنا صبيّ في التاسعة أو العاشرة من عمره مسوّقاً لبضاعته. أسألُه عنها "بكم هذه"؟ فيردّ: "الواحدة بـ400 ليرة وخدي 3 بألف"! أبتسمُ، وأبتاعُ 6 قطع.    
"بوظة الدقّ" أشهى أنواع المثلجات عند "بكداش" وهو أشهر متجر لبيع البوظة في دمشق. يعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1885. والبوظة هنا عبارة عن نسيج مرِن مصنوع من السحلب والمستكة (مادة صمغية تعدّ أحد أنواع المطيبات)، يوضع في جرن كبير، ويبدأ العامل بـ"دقّه" من خلال مطرقة عملاقة، فيَسمع الضربات كلُّ مارّ من أمام المحل.
نأكل منها ثم نتابع سيرنا... وتسوّقَنا.
تركيب العطور من الصناعات التي تشتهر بها دمشق أيضاً. جميع أنواع العطور العربية والأجنبية موجودة هنا، تنثر أريجها وحكاياتها في أزقة الأسواق، وخاصة في ذاك الزقاق المؤدي إلى مقام السيدة رقيّة، ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام). نجرّب بعض العطور، وندخل في سجال "محبّب" مع صاحب المحل، طالبين منه "مراعاتنا" في الأسعار، فيستجيب، بعد "تهديده" بعدم الشراء!
ندخل المقام الجليل للصلاة والدعاء، وندعو الله أن يزيل هذه الغيمة السوداء عن سوريا وعن شعبها الذي ما ترك مناسبةً إلا وعبّر عن حبّه للحياة، ودعمه لإخوانه العرب، ولفلسطين بشكل أساسي... فدفع الثمن غالياً!
من هناك نتوجّه مباشرة إلى الجامع الأموي الكبير الذي يعود تاريخه بحسب المؤرخين إلى 1200 سنة قبل الميلاد. تقول الرواية التاريخية إنّ العباسيين الذين أنهوا حكم الأمويين لم يهدموا المسجد، أسوةً بما فعلوا بباقي الأبنية الأموية، ليكون رمزاً رئيسياً لانتصار الإسلام، وبالتالي نجا المسجد من منهجية "القضاء على تركة الأمويين" في دمشق. وقد اشتغل في بنائه حرفيون أقباط وفرس وهنود ويونانيون ومغاربة، بمجموع نحو 12 ألف شخص!
بعد ساعات من المشي، نشعر بالجوع. أطلب من زاهر، وهو العارف بالكثير من مناطق وشوارع سوريا، أن نتوقف في استراحة غداء، علماً أن الساعة كانت ناهزت السابعة مساءً.
توجّهنا إلى منطقة المالكي حيث مطعم الفاروق المعروف بإعداد أطباق لذيذة من الشاورما. محل صغير في شارع ضيّق يؤدي إلى ساحة الأمويين أكبر ساحات العاصمة دمشق. أنهينا غداءنا المتأخّر بعد أن كان الليل قد أسدل ستاره، ما أعطى نصب السيف الدمشقي رونقاً إضافياً، بزجاجه المضيء وألوانه اللافتة. ينتصب السيف وسط الساحة مذكّراً زوّارها بقوة المدينة ومنعتها، حاملاً إرثها الحضاري ومختزلاً تاريخاً من المعارك والحروب والانتصارات والإنجازات. وعلى طرف الساحة وُضعت عبارة "أحب دمشق" العملاقة باللغة الانكليزية.
معظم جولتنا كانت سيراً على الأقدام، لكننا اضطررنا لأخذ سيارة تاكسي في بعض الأحيان.
أسأل السائق: "في أي ساعة تنهي عملك"؟ فيردّ: "لا وقتَ محدداً وأحياناً نصل الليل بالصباح لأنّ المدينة لا تهدأ والشغل لا يتوقف"!
"وماذا عن حالة الناس النفسية؟ هل تجاوزتم الأزمة"؟
"نعم، بالتأكيد. الحمدلله كل شيء بات طبيعياً الآن".
تخرج من إحدى أقدم مدن العالم عبر التاريخ، وفي جعبتك الكثير من الانطباعات والكلام الذي سترغب أن ترويه أو أن تكتب عنه، بالإضافة إلى كمّ هائل من الألم، نتيجة ما لحق بسوريا من قتل ودمار وخراب وتهجير. ليس لشيء إلا لأنها واجهت، وصمدت... وبقيت وفية لأصدقائها وحلفائها.
زيارة سوريا لا تشبه زيارة أي بلد آخر. فهنا الحنين، وهنا الياسمين... وهنا الفرح والحياة!
الميادين