أشباح «كامب ديفيد».. بقلم: عبد الله السناوي

أشباح «كامب ديفيد».. بقلم: عبد الله السناوي

تحليل وآراء

الخميس، ٢١ سبتمبر ٢٠١٧

في هذا الخريف تتّحدد الخطوط العريضة لموازين القوى وخرائط النفوذ وحدود الصفقات الكبرى الممكنة على مسارح أكثر أقاليم العالم اشتعالاً بالنيران.
لكل لاعب دولي وإقليمي حساباته الخاصة التي ترتبط بمصالحه الاستراتيجية، لكن كل شيء سوف يخضع في النهاية لتفاهمات القوة.
أسوأ ما قد يحدث عند لحظة تقرير مصائر الإقليم لعقود طويلة مقبلة أن نخطئ في قواعد الحساب وأصول الأبجدية، فلا نعرف أين مواطن الأقدام أو إلى أين تنزلق.

وأفدح الأخطاء تجاهل الدور الإسرائيلي في توظيف أزمات الإقليم لمقتضى أمنه ومصالحه وتمدده لاعباً جوهرياً في أي خرائط نفوذ بترتيبات «ما بعد داعش» ــ كأننا نعطيها أسباباً جديدة للقوة بالمجان.
هكذا نظر قبل أربعة عقود إلى اتفاقية «كامب ديفيد» وآثارها الاستراتيجية في خروج أكبر دولة عربية من الصراع العربي ــ الإسرائيلي بحل منفرد وجزئي همّش أدوارها في محيطها على نحو لم تتمكن حتى الآن من استعادتها، كما فرض قيوداً على السيادة والتسليح في شمال سيناء لا تزال تدفع أثمانها في الحرب مع الإرهاب.
عندما عقدت تلك الاتفاقية، وصفتها صحيفة «جيروزاليم بوست» بأنها أهم حدث إسرائيلي منذ تأسيس الدولة عام (١٩٤٨) ــ الذي كان هو التاريخ نفسه الذي يشير إلى نكبة القضية الفلسطينية والعالم العربي بأسره.
بأي تقدير سياسي، مهما اتسعت حدة زوايا النظر، لم يسبق لأحد في مصر أو العالم، أن وصف «كامب ديفيد» بأنها اتفاقية «رائعة» ــ على ما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في إطلالته على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد استبيح الأمن القومي على نحو غير مسبوق، وبدا الانكشاف الاستراتيجي فادحاً في صناعة القرار السياسي، تقريباً فقد استقلاليته ــ تلك قصة مؤلمة ووثائقها معلنة.
غير أن الشعب المصري قاوم ذلك النوع من السلام، ورفض أي تطبيع ثقافي ونقابي وسياسي وفرض كلمته ــ وكانت تلك قصة أخرى في رد الاعتبار.
بذات التوقيت، استبيح العالم العربي كله، بانكفاء الدور المصري، من قصف المفاعل النووي العراقي وغزو بيروت، إلى تقويض ركائزه المشتركة بما فتح الطريق إلى اتفاقية «أوسلو»، التي أفضت إلى «سلام بلا أرض» ــ حسب تعبير المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
في خضم الأزمات والحروب الإقليمية الحالية، يصعب الحديث عن أي سلام إلا إذا كان تكريساً لـ«سلطة فلسطينية» بلا مقومات دولة لها سيادة أو اتصال في أرض، أو أمل في أي تنازلات إسرائيلية.
لا توجد إشارة واحدة لأي استعداد لعملية تسوية وفق المرجعيات الدولية، فما الذي يدعوها لأي قدر من التنازل إذا كانت أحوال العالم العربي على ما هي عليه الآن.
العكس هو الصحيح تماماً، فالتوسع الاستيطاني يقضم ما تبقى من أرض، والاستخفاف بالقرارات الدولية ذات الصلة وصل إلى ذروته، حتى وصلنا إلى الكلام عن صفقة قرن بلا مرجعيات دولية تعيد حقوقاً فلسطينية، مهما كان حجمها.
بمعنى آخر، يبدو الكلام عن السلام بلا أساس يعتدّ به، أو يركن إليه، كأنه طلقات في الهواء.
وقد ناقضت «الصور الضاحكة»، التي التقطت في نيويورك للقاء الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو! ما توصلت إليه السلطات المصرية من اتفاق جوهري بين حركتي «فتح» و«حماس» يقضي بإنهاء الانقسام.
الحميمية الزائدة أضعفت من منسوب الدور المصري وشككت دون مقتضى في ما توصلت إليه من تفاهمات في البيت الفلسطيني.
لعل العالم العربي تساءل، وهو يشاهد «الصور الضاحكة»، ما الذي يبهج نتنياهو العبوس تقليدياً إلى هذا الحد؟
ربما كان ينظر إلى المستقبل المنظور في مواعيد الخريف عن الصورة التي سوف تستقر عليها مصر وعالمها العربي. بقدر إضعاف العالم العربي، تقوى إسرائيل وتتمدد وتطمح إلى بناء شرق أوسط جديد تكون فيه مركز التفاعلات الاقتصادية والاستراتيجية.
لهذا تزكي وتدعم بقدر ما تستطيع مشروع انفصال كردستان العراق، وتكاد أن تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تؤيد الاستفتاء عليه.
رفعت أعلام إسرائيلية في بعض التجمعات الكردية، وكان ذلك عملاً استفزازياً بقدر ما يشير إلى حجم الدور الذي تلعبه الدولة العبرية في الدعم والإسناد.
بالتكوين، فإن آخر ما يعنيها ما حاق بالأكراد من مظالم تاريخية، فقد أنشئت بقوة السلاح والتآمر على شعب أعزل لنزعه عن أرضه دون أن تعترف له أبداً بحقه في دولة ذات سيادة وحدود.
وبالتعريف، فإن الفكر العنصري يناقض مبدأ حق تقرير المصير، فهو ينفي الآخر ويعمل على سحق إنسانيته.
ما تطلبه إسرائيل ــ بالضبط ــ إضعاف العراق ودفعه إلى التقسيم، فإذا ما انفصل الإقليم الكردي يصعب ألا تتبعه انفصالات أخرى لدويلات جديدة على أسس مذهبية، فلا تعود البوابة الشرقية للعالم العربي كما كانت أبداً.
العراق هو المستهدف، وحتى لا ننسى فإنه الدولة العربية الثانية بعد مصر بأحجام السكان وقوتها العسكرية، التي يمكن استعادتها إذا ما تعافى بأي مدى منظور.
بالنظرة الاستراتيجية نفسها، تتداخل إسرائيل في الأزمة السورية حتى لا تلتئم من جديد وتستعيد دورها في العالم العربي.
هناك عنوانان إسرائيليان رئيسيان، أولهما ــ تقسيم سوريا على أسس عرقية ومذهبية، وأن يتبع ذلك تقسيمات تالية في دول عربية مثل اليمن وليبيا، وإقليمية كتركيا وإيران، فالتقسيم المحتمل يعني انفراد إسرائيل بقيادة الإقليم كله على أشلاء دوله وشعوبه.
وثانيهما ــ وهو طلب مستعجل فرض حصار على إيران باعتبارها خطراً حالّاً قرب حدودها ودفع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التصعيد للأزمة معها حتى لا تتمركز على خرائط النفوذ الإقليمية بعد انتهاء الحرب السورية، التي تميل كفتها العسكرية بصورة لا يمكن إنكارها لمصلحة الجيش السوري وحلفائه، إلى درجة دعت المفوض الأممي سيتفان دي ميستورا إلى توقع نهاية الحرب في أكتوبر المقبل. بحقائق الميدان المعارضة المسلحة هزمت، ولذلك انعكاساته على موائد التفاوض الأخيرة. رغم التحرشات الأميركية بإيران، التي أعرب عنها ترامب فوق منصة الجمعية العامة، إلا أن توازن القوة لا يسمح بأي حماقات عسكرية.
بدا حذراً في تحديد الخطوات التي يتبعها بملف «الاتفاق النووي»، الذي وصفه بأنه من أسوأ الصفقات. فلا يمكن تجاهل حلفائه الغربيين الذين يرفضون إلغاءه خشية حرائق جديدة في المنطقة ــ حسبما حذر الرئيس الفرنسي ماكرون من فوق المنصة نفسها.
في الخريف، عندما تتضح الخطوط العريضة للتفاهمات الممكنة بين اللاعبين الدوليين والإقليميين الكبار وتوزيعات النفوذ والقوة لا يصعب توقع صفقات بين أطراف متناقضة مثل إيران والسعودية، أو إزالة جليد بين مصر وتركيا.
في ألعاب الأمم، كل شيء محتمل باستثناء الرهان على الوهم، فإسرائيل ليست حليفاً و«كامب ديفيد» ليست «رائعة»!
* كاتب وصحافي مصري