المعتاد وغير المألوف في السياسة الأميركية.. بقلم: منار الشوربجي

المعتاد وغير المألوف في السياسة الأميركية.. بقلم: منار الشوربجي

تحليل وآراء

الخميس، ٢١ سبتمبر ٢٠١٧

معطيات السياسة الخارجية الأميركية في الشهور الأولى لحكم ترامب تشير لغياب الرؤية المتماسكة والتنسيق بين الفاعلين. فعند تقييم السياسة الخارجية، لا يجوز النظر فقط لمخرجات تلك السياسة وإنما الأهم منها هو المعطيات. أما غياب الرؤية المتماسكة، فلعل تلك هي أهم مشكلات السياسة الخارجية الأميركية اليوم. فالرئيس ترامب وصل للبيت الأبيض رافعاً شعار «أميركا أولاً».

وهي فكرة تعني انسحاباً دولياً، وحمائية تجارية واقتصادية. لكن إدارته تناقض نفسها طوال الوقت. فهي تعزز دورها ووجودها العسكريين في مناطق متفرقة من العالم، كما فعلت في أفغانستان، وتهدد باستخدام القوة بشكل خطير، كما جرى مع كوريا الشمالية. والشيء نفسه يحدث بشأن الموقف من التجارة الدولية.

ورؤية ترامب تختلف عن رؤية أعضاء إدارته الذين يأتون من الدوائر التقليدية، مثل مستشاره للأمن القومي ووزير دفاعه. لكن سعى الاثنان لإضفاء الطابع المحافظ المعتاد على سياسة أي إدارة تنتمي للحزب الجمهوري، يؤدي لمزيد من الارتباك. أكثر من ذلك، فإن رؤية «أميركا أولاً» والرؤية المحافظة التقليدية، تختلفان عن مواقف وزير الخارجية القادم أصلاً من خارج دوائر صنع السياسة الخارجية الأميركية.

والمسألة تذهب لما هو أبعد من ذلك لتشمل صنع السياسة. فالمعروف أن الرئيس وحده لا يصنعها وإنما تشاركه في صنعها مؤسسات عدة. وتلك المؤسسات تتسع لتشمل الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي وأجهزة الاستخبارات والكونجرس، فضلاً عن مؤسسات أخرى، وفقاً لطبيعة القرار نفسه. والمعروف أيضاً أن وزارة الدفاع ظلت تقليدياً أقوى من الخارجية، وميزانيتها أكبر بكثير، بما لا يقارن بها.

فرغم أن وزارة الخارجية أقدم الوزارات الأميركية، إلا أنها الحلقة الأضعف تقليدياً بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية، لأن جمهورها الأساسي ليس أميركياً وإنما هو دول العالم. أما وزارة الدفاع، فتأتي قوتها من حجم المواطنين الأميركيين في كل ولاية الذين ترتبط بها مصالحهم بشكل مباشر، سواء من خلال العمل في القواعد العسكرية أو حتى بمصانع الأسلحة والمعدات العسكرية.

وبسبب أصوات أولئك المواطنين الانتخابية فضلاً عن قوة الصناعات العسكرية، فإن الاثنين يشكلان قوة ضغط بالغة التأثير بما يصب في النهاية لصالح وزارة الدفاع داخل الكونجرس وخارجه أيضاً. لكن في عهد إدارة ترامب، تكرس ضعف الخارجية بشكل خطير ساهم فيه أحياناً الوزير نفسه.

فهناك تقارير صحفية كثيرة لا تتحدث فقط عن توتر العلاقة بين الرئيس الأميركي ووزير خارجيته، الذي تم أكثر من مرة تهميشه في صنع القرار، بما نتج عنه تناقض في التصريحات، وإنما تتحدث التقارير أيضاً عن الطريقة التي يدير بها وزير الخارجية نفسه دفة الأمور بالوزارة.

فقد أشارت مجلة فورين بوليسي مثلاً إلى أن الوزير يحيط نفسه بمجموعة عينهم بنفسه كمستشارين له ونادراً ما يجرى التواصل بينه وبين باقي المهنيين بالوزارة المسؤولين عن الملفات الخارجية المختلفة.

و«المهنيون» هم الذين امتهنوا العمل الدبلوماسي طوال تاريخهم العملي. ورغم أنه ليس جديداً أن يحدث صراع داخل الوزارة بين المعينين سياسياً والمهنيين، إلا أن بقاء الكثير من المناصب العليا بالوزارة شاغرة حتى الآن هو الذي جعل مسألة التواصل تلك أكثر تفاقماً، وخصوصاً أن إدارة ترامب قامت بمجرد توليه بطرد عدد من المهنيين بجهاز الوزارة ولم تختر بعد من يحل محلهم، بينما اختار عدد آخر منهم التقاعد رفضاً لما يجرى.

إلا أن غير المعتاد حقاً هو موافقة تيلرسون على رغبة الرئيس الأميركي في تخفيض ميزانية الوزارة بمقدار الثلث. فالوزير، أي وزير، عادة ما يكون المدافع الأول عن الوزارة وميزانيتها، التي تعد جزءاً من نفوذها في واشنطن. وهو يدافع عنها سواء إزاء البيت الأبيض أو الكونجرس. لكن المفارقة هذه المرة هي أن الكونجرس هو الذي يقاوم ذلك التخفيض في الميزانية، لا الوزير!

أكثر من ذلك، فإن تيلرسون، الذي لم يسهم في بلورة رؤية متماسكة للسياسة الخارجية، اعتبر في خطاب للعاملين بالوزارة أن «أهم شيء» على الإطلاق يسعى لإنجازه كوزير هو إعادة هيكلة الوزارة داخلياً وجعل عملها أكثر «فاعلية». أي أن أهم أولوياته إدارية لا سياسية. وكل ذلك أدى، كما تشير لوس أنجلوس تايمز، لانخفاض معنويات العاملين بالخارجية بدرجة غير مسبوقة.

وتهميش وزارة الخارجية يعني بالضرورة أن مؤسسات أخرى هي التي تدير الدفة، وهي تكون في العادة البيت الأبيض ووزارة الدفاع. لكن الوقائع طوال الأشهر الماضية تشير إلى أن وزير الدفاع هو الآخر اضطر ليناقض تصريحات للرئيس، مثلما حدث بشأن الناتو وكوريا الشمالية، بل لم يكن على علم بقرارات تخص وزارته إلا بعد أن اتخذها الرئيس، كما جرى مع قرار منع المتحولين جنسياً من الخدمة في الجيش الأميركي.

باختصار، تعاني السياسة الخارجية الأميركية ارتباكاً حاداً سببه تعدد الرؤى والفاعلين من دون التنسيق الذي يحدث عادة بين تلك الرؤى أو بين أولئك الفاعلين المؤسسيين.