الجمعية العامة 2017: نظام عالمي جديد

الجمعية العامة 2017: نظام عالمي جديد

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٥ سبتمبر ٢٠١٧

من راقب المشهد في الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي، وتابع الكلمات الرئيسية فيه وردود الأفعال عليها، يتوصّل إلى استنتاجات مفادها أن هذه الدورة من الجمعية العامة قد أعلنت الوداع الرسمي للولايات المتحدة كقوة وحيدة مهيمنة على العالم وكقطب أوحد حرص وعمل كلّ ما يستطيع في العقد الأخير كي يبقى قطباً وحيداً.
وفي هذا الإطار أول تعبير ومصطلح يسعدني أن أعلن وفاته مرّة وإلى الأبد؛ هو مصطلح «الأسرة الدولية» الذي أُسيء استخدامه لسنواتٍ خلتْ لإيهام الشعوب الفقيرة والدول الضعيفة، أو المستضعفة، أن قوة دولية واحدة ومتكاملة تقف ضدّها.
لطالما تساءلتُ مراراً وتكراراً من «الأسرة الدولية» التي تقصدون؟ أليست فقط الولايات المتحدة وأوروبا؛ على حين هذا التعبير يجب أن يشمل العالم بأسره والإنسانية برمّتها؟ فقد كان موضوع الاتفاق النووي الإيراني هو المؤذن بانتهاء هذا المصطلح وما يعنيه به الأميركيون والأوروبيون حيث وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح الرئيس الإيراني بابتسامة عريضة، ويعلنُ بكلّ وضوح أن مراجعة الاتفاق النووي الإيراني خطأ، كما تماسك الموقف الأوروبي أكثر في الاجتماع الذي جمعهم مع وزير خارجية إيران، ووزير خارجية الولايات المتحدة، بحيث ظهر الشرخ واضحاً بين الموقف الأوروبي والموقف الأميركي، ما اضطرّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يبتلع موقفه المتشدّد الذي كان قد أعلنه من الاتفاق النووي الإيراني، ويسرّب أنه قد توصّل إلى قرار بشأن الاتفاق، ولكنه لن يعلن عنه الآن، وهذا التسريب هدفه تخفيف الضغوط والانتقادات التي بدأت تنهال على رئيس الولايات وسياساته حتى من الفرقاء الأوروبيين، الذين كانوا حتى وقت قريب يشكلون معه الأعضاء الوحيدين «للأسرة الدولية» في تجاهل مطلق وعنجهي للعالم برمّته.
إذا قال قائل إن الاختلاف هذا هو اختلاف مصالح لأن الشركات الأوروبية لها مصلحة حيوية في العلاقة مع إيران؛ أجيب متى كان الاختلاف أو الاتفاق الغربي أي شيء سوى اختلاف أو اتفاق مصالح، وهل هناك أي شيء يمكن أن يناقشوه سوى المصالح؟ وهنا أنتقل إلى النقطة الثانية وهي أن هذا الغرب الذي كان يطلق على نفسه اسم «الأسرة الدولية» قد غادر المشهد كمنظومة كانت تدّعي الحرص على حقوق الإنسان والحريات والمساواة بين البشر حيث تلحظ في كلمات المتكلمين انتقادات شديدة للمعايير المزدوجة الغربية، وكشف المستور في ابتعاد الغرب عن القيم الأخلاقية والإنسانية التي يدعي منذ دهور أنه حريص عليها. أضف إلى ذلك أن خطاب ترامب تعرّض لانتقادات شديدة شكلاً ومضموناً، وكان الحدث أبعد ما يكون عن تثبيت هيبة أو مكانة الولايات المتحدة في ضمائر الآخرين. ولم يكنْ وزير خارجيته ريكس تيلرسون بأحسن حالاً في تقييمات المختصين والمتابعين؛ ذلك لأنهم غير قادرين أن يدافعوا عن أعمالهم وخطواتهم وتحرّكاتهم في العالم بعد أن انفضح أمرهم في التعاون مع الإرهاب والوهّابية وقتلة الأطفال والنساء، ولا يمكن لهم أن يتمكنوا من نسج لغة مقنعة تظهرهم بمظهر القوة الأخلاقية التي تقود العالم.
على الجانب الآخر كان حدث انعقاد الجمعية فرصة أمام روسيا والصين وإيران وسورية ودول أميركا اللاتينية، كي تعبّر عن ذاتها وجهودها وقيمها التي يشاطرها إياها معظم سكان العالم، ولذلك تجد أن كلمة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومؤتمره الصحفي قد شغلا معظم الصحافة الموجودة في المكان، وتحدّث عن الوجود الشرعي والوجود اللاشرعي للقوات في سورية وعن دحر الإرهاب، وخرج السيد قاسم سليماني ليعلن للملأ من طهران أن القضاء على داعش سيتحقّق خلال شهرين أو ثلاثة، على حين كان الرئيس الأميركي أوباما قد أعلن مرات عدّة أنه لا يمكن القضاء على داعش، وأنّ كلّ ما يمكن لنا أن نفعله هو الحدّ من تأثير داعش ومحاولة إيقاف تمدده. كما أعلنت الصين في الوقت ذاته أنها تعتزم تغيير عقودها الآجلة للنفط لتكون باليوان بدلاً من الدولار، مع ربط عملتها بأسعار الذهب وهو ما سيزعزع مكانة الدولار، ويضع حداً لسياسات الهيمنة والغطرسة الأميركية، وما يبشّر بقيام عالم متوازن متعدد الأقطاب تحكمه قواعد الشرعية الدولية.
وفي كلمات كثيرة تحدّث ممثلو دول عديدة عن عدم أهلية الولايات المتحدة لقيادة العالم، وعن انبلاج عالم جديد من العلاقات الدولية لا يتحكّم فيه الغرب ولا يتمكّن من إملاء شروطه على الآخرين. ولكنّ بداية هذا النظام العالمي الجديد تبدو أنها تعتمد على سياسة المسارات وليس سياسات الدول كسلة واحدة، فقد تختلف دولة مع أخرى حول ملف ما، وتتفق معها حول ملف آخر، ولا يمكن اليوم تصنيف سياسات الدول مع أو ضدّ بعضها، بل هي سياسة مسارات ومواضيع تتلاقى فيها المواقف أو تختلف بغضّ النظر عن سياسات هذه الدول ذاتها حول ملفات أخرى، أي إن السياسة اليوم أكثر تداخلاً وتعقيداً لأن المواقف مازالت في طور التشكّل وسوف تستمرّ هذه الظاهرة إلى أن تتوصّل الدول إلى قناعات راسخة وثابتة بشأن علاقاتها وقيمها وأهدافها المستقبلية، ولكنّ الثابت في الموضوع أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تكونا في صدارة المشهد السياسي في القادم من الأعوام.