السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.. طابع غامض وتردّد ثابت

السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.. طابع غامض وتردّد ثابت

تحليل وآراء

السبت، ١٤ أكتوبر ٢٠١٧

لطالما كان الناس يستفسرون عن النهج الأميركي تجاه الشرق الأوسط، وتساءلوا حينها بشأن إن كان للرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما (2009 ـ 2017) “استراتيجية كبرى أم لا”، لا سيما في ظل مواقف مترددة لسياسته الخارجية.
ورغم أن أوباما كان يستخدم خطاباته لإرساء الديمقراطية، إلا أنه لم يقدم دعما كافيا لأي عملية ديمقراطية على أرض الواقع.

ففي الوقت الذي صرح فيه بأن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا يعد “خطا أحمر”، تجاهل بسهولة الوضع عندما تخطى نظام بشار الأسد هذا الخط، بل وسمح لروسيا (حليف النظام السوري) بالتدخل في سوريا، رغم انتقاده الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم (الأوكرانية) عام 2014.

بالمثل، وفي معظم الأزمات الدولية التي اندلعت خلال حكمه، فعل أوباما عكس ما تحدث به في خطاباته ومواعظه.
وعلى خلفية هذه المواقف المتناقضة، تجادل البعض حول عدم امتلاك أوباما لسياسة خارجية أو استراتيجية أمنية وطنية.

ـ الغموض.. أداة سياسية
انطلاقاً من استراتيجية تقليص تدخل الولايات المتحدة الأميركية في الشؤون الدولية كهدف سياسي تحول لاحقا إلى إعلان عدم التدخل المباشر لواشنطن في أي من هذه الشؤون، عمل أوباما من أجل تنفيذ هذه السياسة، على زيادة الغموض حول سياسته.
واعتماد أوباما على “الغموض” أداة سياسية، ولّد الكثير من التوقعات لدى زعماء العالم الذين أعربوا عن أملهم في تدخله بطريقة أو أخرى للتعامل مع المعتدين الدوليين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو الصراعات الدائرة، مثل سوريا.
وكجزء من استراتيجيته، بدا أوباما ثابتا على موقف المتردد، في محاولة منه للتغطية على سياسته لتبدو استراتيجيته وكأنه لا وجود لها.
الآن رحل أوباما (في 20 كانون الثاني الماضي)، لكن الموقف المتردد في السياسة الخارجية الأميركية لا يزال قائما.
لذا، هل يجب أن يُنظر إلى تلك الاستراتيجية على أنها إرث من إدارة أوباما حتى بعد انتهاء ولايته؟ وهل استراتيجية “الغموض الواعي” التي تبناها أوباما ما زالت حية؟

ـ ترامب يتبع أوباما
خلال حملته الانتخابية، عرف الرئيس الأميركي (الجمهوري) الحالي دونالد ترامب نفسه بأنه “معارض صلب لكل سياسات (الديمقراطي) أوباما”، وبالتالي كان متوقعا أن يتصرف على نقيض سابقه.
لكن لم تحدث تغييرات كبرى في السياسة المنتظرة لترامب، فالجميع ما زال يجد صعوبة في توصيف ملامح الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.
وفي آذار الماضي، وقع ترامب اتفاقية ضخمة لبيع أسلحة إلى السعودية خلال زيارة رسمية للرياض (في أيار الماضي)، ترجمت على أنها دعم نشط (مسبق) للعقوبات التي فرضتها المملكة على قطر (في حزيران الماضي).
وقال ترامب في واحدة من تغريداته على موقع “تويتر”، إنه مقتنع بكون قطر وراء جميع الجماعات الإرهابية.
لكن بعد يومين من هذه التغريدة، صرح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأن واشنطن “لا تدعم بشكل مباشر العقوبات ضد قطر”.
وجاء تصريح تيلرسون قبل أيام من توقيع واشنطن والدوحة اتفاقية لبيع الأخيرة أسلحة أميركية أيضا.
وبهذا، يتضح أن واشنطن لا تتخذ موقفا محددا في هذه الأزمة (الخليجية)، وهو ما يشير إلى أن الإدارة الأميركية أعادت استخدام شكل من أشكال سياسة عدم التدخل المغلفة بالغموض الذي يساعد على تحقيقها.

ـ دعم متزايد لـ “بي كا كا”
ملمح آخر في السياسة الخارجية الأميركية، هو دعم واشنطن لحزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د)، وهو امتداد منظمة “بي كا كا” الإرهابية في سوريا.
ومنذ إدارة أوباما، تدعم واشنطن فرع منظمة “بي كا كا” شمالي سوريا بمنحه الأسلحة الثقيلة، والشرعية السياسية، علاوة على الدعم الجوي.
ورغم إدانة تركيا المتكررة لاستخدام واشنطن جماعة إرهابية ضد أخرى، فإن الدعم الأمريكي لتنظيمي “ب ي د” و”وبي كا كا” ازداد في حكم أوباما.
ومع ذلك، يستمر الأميركيون في استخدام العبارات المطمئنة حول السلامة الإقليمية لسوريا.
ويبدو أن واشنطن لا تشعر بالارتياح إزاء مفاوضات أستانة للسلام، لأنها تعني تعزيز أدوار كل من روسيا وتركيا وإيران.
ورغم ذلك، لا تنتقد واشنطن علنا تلك المفاوضات، ما يعني أن ما تفكر فيه لن يُكتشف كاملا.

ـ واشنطن والاستفتاء
ومن أبرز الأمثلة على السياسة الأميركية المرتبكة والغامضة، هو موقف واشنطن من استفتاء انفصال إقليم شمال العراق.
عندما أعلنت حكومة مسعود بارزاني اعتزامها إجراء استفتاء من أجل الانفصال، كان رد الفعل الأول من الولايات المتحدة هو عدم الترحيب بالقرار.
لكن مع توالي التصريحات اتضح أن واشنطن تؤيد في الواقع قيام دولة كردية مستقلة شمالي العراق، لكنها تشكك فقط في التوقيت.
وحاليا ينصب تركيز إدارة ترامب على محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، لا سيما في مدينة الرقة السورية، وتعتبر أن أي نشاط آخر يعد انحرافا عن هدفها.
وقد يؤدي هذا الاستفتاء غير الشرعي وعواقبه العديدة المحتملة إلى موجة جديدة من عدم الاستقرار الإقليمي، ما قد يتسبب بدوره في نشوب أزمات كثيرة غير متوقعة.
وبالتأكيد، سيمثل أي تدخل إيراني وتركي محتمل في شمالي العراق مجالا آخر للجدل، ما يتطلب المزيد من التدخل الأميركي.
وبالنظر إلى جمود إدارة ترامب، وعدم رغبتها في أي تدخل من هذا القبيل، يتضح لماذا طلبت واشنطن تأجيل الاستفتاء.
ومع ذلك، وجد معظم المراقبين أن الموقف الأميركي كان أكثر لينا مما كان متوقعا، فلو أن واشنطن كانت ترغب فعلا في حالة من الاستقرار والاندماج في العراق، وترى أن توقيت الاستفتاء غير مناسب، لمارست ضغوطا على بارزاني.
كما أن بارزاني، وفق مراقبين، لن يجرؤ على التصرف منفردا دون موافقة أميركية ضمنية.
لذا، يمكن القول إن واشنطن تدعم بارزاني ولو ضمنيا، ما يجعلها تملك موطئ قدم في كل من المخيمين (المؤيد والعارض للاستفتاء).

ـ مواقف متنافرة
ولعل من أحدث ملامح السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط ما حدث بشأن محافظة إدلب (شمال غربي سوريا).
فبعد يومين من إعلان وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) دعمها لتركيا في عمليتها العسكرية بإدلب (تمهيدا لتأسيس منطقة خفض توتر وفق مسار أستانة)، إضافة إلى مساندتها لمفاوضات أستانة، قررت السفارة الأميركية في أنقرة تعليق منح التأشيرات من تركيا.
وهو موقف غير متوقع بالتأكيد، لكنه يأتي ضمن القضايا المثيرة للجدل بين تركيا والولايات المتحدة، لا سيما المتعلقة بجماعة فتح الله غولن الإرهابية، والمحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 تموز 2016.
ورغم المطالب التركية المتكررة، لم تتخذ واشنطن أي خطوات مؤكدة في سبيل التحقيق في المحاولة الانقلابية الفاشلة بتركيا.
فما زال زعيم الجماعة الإرهابية يقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية (شمال)، كما لم يظهر أي مؤشر على إمكانية خضوعه للتحقيق.
وإضافة إلى ذلك، يعتبر معظم الأتراك أن الولايات المتحدة ضالعة في المحاولة الانقلابية، بل ودعمتها بشكل نشط، وبدلا من تقديم حجج مقنعة تدحض كل هذه الشائعات، ظلت البعثة الأميركية في تركيا تعمل على تصعيد التوتر عبر سفير مثير للجدل.
وبالتزامن مع كون مغادرة السفير الأميركي جون باس باتت وشيكة، لا يمكن وصف فترة ولايته إلا بأنها واحدة من أكثر المسائل إشكالية في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ التركية.
***

حسن باصري يالشن* – الأناضول